المعتصم الكيلاني – المختص في القانون الجنائي الدولي
في أروقة السجون ومراكز الاعتقال السرية المنتشرة في أنحاء العالم العربي، تختفي آلاف الأرواح دون أثر، تاركة خلفها عائلات غارقة في اليأس والقلق. الاختفاء القسري ليس مجرد جريمة؛ بل هو أداة قمعية تستخدمها الأنظمة الديكتاتورية لسحق المعارضة وإسكات الأصوات الحرة. منذ عقود، يُمارس الاختفاء القسري بشكل منهجي في العديد من الدول العربية، من سوريا إلى مصر والعراق، ليصبح جزءًا من المشهد السياسي والأمني في هذه الدول.
نماذج واقعية للاختفاء القسري في العالم العربي
سوريا: الدولة القابعة تحت الظلام
في سوريا، أصبح الاختفاء القسري جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية النظام السوري في قمع المعارضة منذ اندلاع الثورة في عام 2011. وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن هناك ما لا يقل عن 154,000 شخصًا تعرضوا للاختفاء القسري منذ بداية الصراع، حيث يُحمَّل النظام السوري المسؤولية عن 87% من هذه الحالات. واحد من أبرز الضحايا كان المبرمج السوري باسل خرطبيل، الذي اختفى في سجون النظام قبل أن يُعلن عن إعدامه لاحقًا. قضيته تُظهر كيف يمكن للنظام استهداف العقول النيرة إلى جانب المعارضين السياسيين.
مصر: ظاهرة “الاختفاء الليلي”
في مصر، ازدادت حالات الاختفاء القسري منذ تولي عبد الفتاح السيسي السلطة في عام 2013. تُقدّر منظمات حقوق الإنسان أن هناك الآلاف من حالات الاختفاء القسري التي وقعت منذ ذلك الحين. من بين هذه الحالات قضية الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي اختُطف وعُذب حتى الموت في القاهرة عام 2016. وعلى الرغم من النفي المستمر من السلطات المصرية، إلا أن الأدلة تشير بقوة إلى تورط الأجهزة الأمنية المصرية في اختفائه وقتله.
العراق: إرث الصراعات الطائفية
العراق، البلد الذي يعاني من الصراعات الطائفية والتمردات المسلحة منذ عقود، شهد آلاف حالات الاختفاء القسري. وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر، هناك أكثر من مليون شخص مفقود في العراق منذ حرب الخليج الأولى عام 1991 وحتى اليوم. بعد سقوط نظام صدام حسين، تورطت مختلف الميليشيات الطائفية والجماعات المسلحة، بالإضافة إلى قوات الأمن العراقية، في حالات اختفاء قسري، مما زاد من تفاقم الوضع الإنساني في البلاد.
الاختفاء القسري في ضوء القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية
القوانين المحلية: حماية غائبة
في معظم الدول العربية، القوانين التي تحظر الاختفاء القسري إما غائبة تمامًا أو غير فعالة. على سبيل المثال، ينص الدستور المصري على حماية المواطنين من الاعتقال التعسفي، لكن الواقع يعكس شيئًا آخر تمامًا. السلطات الأمنية تتمتع بصلاحيات واسعة، وغالبًا ما تُستخدم ضد المعارضين السياسيين أو حتى المدنيين الأبرياء. في سوريا، الدستور السوري يتضمن نصوصًا تحظر التعذيب والاعتقال غير القانوني، لكن هذه النصوص تُنتهك بشكل منهجي، مما يجعل القانون أداة بيد السلطة وليس حماية للمواطنين.
الاختفاء القسري وفقًا للاتفاقيات الدولية
تُعتبر الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2010، إحدى الأدوات القانونية الرئيسية التي تعترف بأن الاختفاء القسري يشكل جريمة ضد الإنسانية عندما يُمارس بشكل منهجي. وعلى الرغم من توقيع بعض الدول العربية على هذه الاتفاقية، فإن تنفيذها على أرض الواقع يظل بعيد المنال. فقد وُثقت آلاف الحالات في دول مثل سوريا والعراق ومصر، حيث تستخدم الدول الأجهزة الأمنية لكبح الحريات وترويع المواطنين.
الأمم المتحدة قد أكدت في تقاريرها مرارًا أن ممارسة الاختفاء القسري تُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وقد يُعتبر جريمة ضد الإنسانية في حال ارتكابه كجزء من سياسة منهجية أو واسعة النطاق. ورغم ذلك، تظل المساءلة عن هذه الجرائم غائبة إلى حد كبير في معظم الدول العربية.
أرقام وإحصاءات حول الاختفاء القسري في العالم العربي
تُقدّم تقارير المنظمات الحقوقية الدولية أرقامًا مروعة حول الاختفاء القسري في العالم العربي:
-سوريا: كما ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن هناك ما لا يقل عن 154,000 شخص مختفين قسريًا، تُحمّل النظام السوري المسؤولية عن 87% من هذه الحالات.
- مصر: وثقت منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش مئات من حالات الاختفاء القسري في مصر منذ 2013، بينما تُقدّر المفوضية المصرية للحقوق والحريات عدد المختفين قسريًا بحوالي 1,500 حالة.
- العراق: تشير تقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى وجود أكثر من مليون شخص مفقود في العراق، بينهم آلاف الحالات التي تتعلق بالاختفاء القسري.
التوصيات لمواجهة الاختفاء القسري وضمان العدالة الانتقالية
يجب على الدول العربية الالتزام بتطبيق الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. وعلى الرغم من أن بعض الدول قد صادقت على هذه الاتفاقية، فإن التنفيذ الفعلي يبقى ضعيفًا. يتعين على المجتمع الدولي أن يفرض ضغوطًا إضافية على الحكومات لضمان الالتزام الكامل بهذه الاتفاقية، كما ويتعين إنشاء آليات دولية مستقلة للتحقيق في حالات الاختفاء القسري في الدول العربية. مثل هذه الآليات يجب أن تكون لها صلاحيات واسعة للوصول إلى الأدلة والشهادات، وتقديم التوصيات اللازمة لإجراء محاكمات عادلة للمتورطين في هذه الجرائم. كل هذا ليس بعيداً عن انه يجب توفير الدعم النفسي والقانوني لعائلات المختفين. هذه العائلات تعيش في حالة من اليأس والقلق المستمر بسبب غياب أحبائها، وتحتاج إلى دعم من المنظمات الدولية والمحلية لمساعدتها في الحصول على حقوقها.، ولا يمكن تحقيق العدالة دون توثيق شامل للجرائم. يجب على المنظمات الحقوقية المحلية والدولية الاستمرار في جمع الأدلة والشهادات لتقديمها في المستقبل إلى محاكم دولية أو لجان عدالة انتقالية، العدالة الانتقالية في الدول العربية التي شهدت انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان تتطلب آليات واضحة للكشف عن مصير المختفين قسريًا، ومعاقبة المسؤولين عن هذه الجرائم. يتعين على الحكومات المقبلة أو الانتقالية في هذه الدول أن تضع هذه القضايا على رأس أولوياتها كجزء من عملية بناء دولة القانون.
نحو مستقبل خالٍ من الاختفاء القسري
يظل الاختفاء القسري جريمة لا يمكن تجاوزها في مسار بناء مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية في العالم العربي. إن الكشف عن مصير المختفين ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم يمثلان خطوة أساسية نحو إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع وضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات. يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية كبرى في هذا السياق، من خلال فرض ضغوط دبلوماسية واقتصادية على الأنظمة التي تمارس هذه الجرائم، ودعم المجتمع المدني في جهوده لتحقيق العدالة.
في نهاية المطاف، لا يمكن تحقيق سلام حقيقي ودائم في العالم العربي إلا من خلال مواجهة الماضي ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، والكشف عن مصير المختفين قسريًا، كجزء لا يتجزأ من عملية العدالة الانتقالية. هذه هي الخطوة الأولى نحو مستقبل أكثر إشراقًا لجميع شعوب المنطقة.
مصادر ومراجع
- تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أغسطس 2023.
- منظمة العفو الدولية، تقرير حول الاختفاء القسري في مصر، 2021.
- الرابط: تقرير منظمة العفو الدولية
- هيومن رايتس ووتش، تقرير حول الاختفاء القسري في مصر، 2020.
- الرابط: تقرير هيومن رايتس ووتش
- اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تقرير حول المفقودين في العراق، 2019.
- الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، الأمم المتحدة.
- الرابط: الاتفاقية الدولية