عمرو هاشم ربيع يكتب : في عدم الاحتجاج وأسبابه!!
في الاحتجاج كتب أساتذة علم الاجتماع السياسي في الغرب وغيرهم عديد الأمور المرتبطة بتعبير الناس عن ذواتهم بطريقة تعبر عن معارضتهم لأوضاع أو سياسات معينة. بطبيعة الحال، قد يكون أحد أسباب تلك المعارضة أن الناس يجدون في وسائل التعبير التقليدية، ويقصد بها الانتخابات،
وسيلة غير دائمة، ما يجعل الناس يسرعون إلى التعبير في الأوقات التي تفصل بين استحقاقين انتخابيين عن أنفسهم بالاعتصام أو التظاهر أو الإضراب.
وقد قدرت عديد الدساتير تلك الفوارق الوقتية بين الانتخابات، فشرعت ونظمت حق الاحتجاج السلمي وأشكاله، بل أن الكثير من النظم السياسية المتمدينة حمدت تلك الوسائل، ليس فقط للتنفيس عن الناس ومكبوتاتهم،
بل أنها اتخذتها فرصة لسرعة تغيير سياستها، لأنها استشرفت بها ما يفضله وما يكرهه الناس، فطال عمرها في السلطة، حيث اقترب سلوكها وسياستها الجديدة من التوافق العام، لأنها بتلك السياسات عادة ما تكون قد زلفت إلى جانب إطروحات المعارضة الحزبية.
في مصر نظم الدستور حق الاحتجاج السلمي، لكنه كما جرت العادة في الكثير من الأمور، قوض القانون تلك الحقوق، فجعلها شبة مستحيلة، أو أنها تتم بطريقة وحيدة وهي الاستجابة للسلطة،
كمظاهرات التفويض، ومظاهرات منع تهجير الفلسطينيين وغيرها. وقد شاهدنا جميعا في المظاهرة الأخيرة يوم 20 أكتوبر الماضي، أنها بمجرد خروجها عما هو مرسوم لها تم التعامل معها بوسائل خشنة.
وقبل تلك المظاهرة وبعدها لم نسمع -ويعتقد أننا لن نسمع- عن شكل احتجاجي ملموس، يعبر عما بداخل خلجات الصدور.
هنا يبقى السؤال ما هي المحددات التي يمكن أن تكون مدعاه لسكوت الناس (المصريون هنا إنموذج). قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب التأكيد إننا نبحث في ظاهرة ترتبط بشكل مباشر بالاجتماع السياسي،
ومن ثم فإن المطروح ليس دعوة للخروج أو الاحتجاج أو التحريض على العنف أو ما شابه، حتى لا ينضم كاتب تلك السطور إلى جوقة المحبوسين احتياطيا أو المخاطبين بأحكام الكيانات الإرهابية.
بداية، من المهم التأكيد أن أي خروج احتجاجي سلمي للتعبير عن الغبن أو السخط مرتبط بقدرة من يخرج على الحركة. قديما قالوا لا سياسة لجائع، والاحتجاج هو عمل سياسي بامتياز،
رغم مظهره الاجتماعي، وغرضه الذي قد يكون اقتصادي. بعبارة أخرى، كما أن السياسة في بعض المجتمعات الشمولية ذات الوفورات المالية غير مفضلة على الإطلاق، مثل بعض مجتمعات الخليج العربي،
التي قايضت المواطن بشكل غير مكتوب بين الرفاهة أو العمل بالسياسة، فإن السياسة –من الزاوية الأخرى- لا علاقة لها بالضعيف الهزيل. قبل يناير2011 كتب د. أسامة الغزالي حرب مقالين بعنوان “لماذا لا يثور المصريين” (المصري اليوم3و10سبتمبر2007) وكتب د.عمرو الشوبكي عشية 25 يناير 2011 “مصر ليست تونس” (المصري اليوم6يناير2011).
وبعدها تبدلت الأحوال، لسبب بديهي وهو أن المصريين وقتئذ كانوا يملكون حد أدنى من القوة القادر على الحركة السلمية في الشارع. اليوم تغير الوضع،
فرغم المصاعب الاقتصادية والاجتماعية التي يعتبرها البعض أشد وطأة مما كانت عليه البلاد عشية يناير2011، إلا أن قدرة المصريين اليوم على التفاعل نتيجة تلك الوطأة أتسمت بالضعف والهزال المانع للحركة،
وهو ما يعتبره الكثيرين من علماء الاجتماع السياسي شرطا للاحتجاج.
ثانيا: عقب 25 يناير 2011 رادف بعض المصريين بين الاحتجاج السلمي والتخريب فجعلوه شيئا واحد. هنا من المهم الإشارة إلى أن 25 يناير نجحت بالفعل في إزاحة نظام مبارك،
لكنها ونتيجة لغياب القيادة وضعف الأحزاب –المتفاقم والكبير في وقتنا الحالي- لم ترفق ذلك بوضع نظام جديد يساعد على تجاوز العقبات التي احتج المصريين من أجلها.
بعبارة أخرى، اعتبر البعض أن 25 ينايرنجحت في الهدم وسقطت في البناء، لذلك أصبح النسق العقيدي للكثيرين -ومخيلاتهم- هو رؤية سلبيات التجربة، دون أن يطرحوا كيف كان يمكن لهم تجاوزها وقتئذ.
ثالثا، إن بعض قنوات ووسائل الإعلام المصري استطاعت أن تغرس في نفوس الناس دعاية سلبية ترتبط بعواقب الاحتجاج وتعبيرهم عن أنفسهم سلميا،
ومن ثم كانت كافة دعاوى خروج الناس للاحتجاج ترتبط بغرس قيم الضعف والتأخر والتخلف. هنا من المهم أن نلفت الانتباه إلى أن هذا الإعلام هو ذاته من ركز على الجوانب السلبية لـ25يناير،
فأمعن في التركيز على استغلال إنفلات الوضع الأمني بتجريف الأرض الزراعية بالبناء عليها، وغلق مئات المصانع، واستغلال بعض الجماعات غي المصرية هذا الوضع بإحداث خروقات لأمن مصر من بوابتها الشرقية…إلخ.
رابعا، على الرغم من أن 25 يناير 2011 وصفت في الدستور على أنها ثورة، فإن أحاديث رموز السلطة بما في ذلك الرئيس السيسي كان جميعها يحذر من تكرارها،
ومن ثم رأي المصريين أن هذا التحذير يعد نوع من التنبية على أن الخروج للاحتجاج ولو بشكل سلمي كما حدث في الخروج على مبارك هو من الممنوعات والأمور المكروهه لنظام الحكم،
وهو شكل من أشكال الذي لا يرغب رأس السلطة في مصر أن يرى فيه المصريين.
خامسا: يرتبط بما سبق بالدعاية الموجهة من السلطة والمتعلقة بتخويف الناس من مصير سوريا واليمن والسودان وليبيا، وما لحق تلك البلدان من فوضى لا زالت ترزح تحت نيرانها، فأصابت تلك البلدان بالتخلف على تخلفها،
والتراجع فوق تراجعها. وبالمقابل فإن مصر القوية المتماسكة مهما كانت الصعاب، هي القادرة على تخطى الأزمات، يرتبط هذا كله ببعض البرامج الاجتماعية والمشروعات القومية التي أن اتفق البعض معها أو اختلف،
فإنها تعد من قبيل القدرة على الحركة وعدم الإفلاس.
سادسا، ارتبط الاحتجاج في مصر منذ 25 يناير 2011، وما تلاه من انتكاسات متوقعة في مثل تلك الظروف وشاركت فيها جماعة الإخوان المسلمين والثوار الليبراليين والمجلس العسكري الحاكم قبل حكم الإخوان،
ارتبط كل ذلك في ذهن البعض بأنه سيكون محاولة لإعادة حكم جماعة الإخوان، وأنه سيكون شكل من أشكال استدعاء هذا الحكم الذي وثب على السلطة مستغلا حالة عدم الاستقرار،
بعد أن كانت تلك الجماعة ضمن جماعات تمالأ نظام مبارك. وقد ربط النظام السياسي ذاته بين الاحتجاج السلمي من ناحية والارتباط بجماعة الإخوان المسلمين من ناحية أخرى،
إلى الحد الذي جعل السلطة تتهم كل شكل من أشكال هذا الاحتجاج بكونه ارتباط بجماعة إرهابية غرضها قلب نظام الحكم.
سابعا، يعتير الكثيرون أن الخروج للاحتجاج في ظل القوانين الحالية هو نوع من تحدى السلطة وأنه خرقا للأمن، ويشكل هذا الخرق تجاوزا له عقوبات أكثر إيلاما من تحمل أسباب الخروج،
ومن ثم عد الخوف من البطشة الأمنية والخوف من عمليات السجن والتوقيف والاعتقال والحبس الاحتياطي والاختفاء القسري، وغيرها من الأمور التي درج حقوقيون مصريون ومن خارج مصر على تسميتها، هو سبب وجيه لمنع الاحتجاج السلمي.
ثامنا: في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بزيادة التضخم في أسعار السلع وعلى رأسها الغذاء، وتدني الرواتب والأجور، وانخفاض قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية،
كل ذلك أدى إلى تعب الناس، وزيادة نسبة الفقر، وتآكل الطبقة الوسطى لصالح الانتقال للطبقة الدنيا، وإذا أضيف إلى كل ذلك تدهور مستوى الخدمات خاصة فيما يتعلق بالتعليم والصحة،
لتبين أن الناس أصبحت مشغولة ومهمومة بشكل كبير بتأمين لقمة عيشها، وقوت يومها، ما يجعلها في معزل عن القيام بأى احتجاج سلمي.
تاسعا: يخشى الكثيرون في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية أن يتحول احتجاجهم على الأوضاع القائمة لما يشبه الصراع الطبقي، أو ما يسميه البعض ثورة جياع أو فقر،
تأكل الأخضر واليابس وتنفلت من عقالها السلمي لتصبح غير سلمية، بسبب حال التفرقة في معدلات الدخول وأزمة التوزيع المصاحبة لغياب العدالة الاجتماعية والفوراق الطبقية الكبيرة،
والتي يرصدها يوميا إعلانات العقارات والمصايف كنموذج.
عاشرا، يربط البعض خروجهم للاحتجاج بالخوف من أن يتوقف دولاب العمل في الدولة، فتصبح قدرة هؤلاء على الاستعانة بعوائد مدخراتهم وودائعهم في البنوك، والتي يعتمدون عليها في مهب الريح،
فتزيد مشكلتهم مشكلة، وأزمتهم تأزما، ويصبح احتجاجهم وبالا عليهم.