(عَرشُكَ سَيْف .. وسَيْفُكَ زَيْف)- أمل دنقل.
مهندس/ يحيى حسين عبد الهادي
احتفالٌ بماذا؟ .. هل حَدَثَتْ انتخابات؟
لو حَدَثَت انتخاباتٌ لَمَّا أُقيمت احتفالاتٌ .. إذ أنَّ أيَّ حاكمٍ حقيقي عبر انتخاباتٍ حقيقيةٍ (لا سيما في بلدٍ كمصر) تكُون لحظةُ جلوسه على كرسي الحكم ساعةَ هَمٍّ لا احتفالٍ ..
كيف لا وقد أصبح مسؤولاً عن إطعام ملايين الأفواه الجائعة ومَدِّ ستائر الستر على كِرامٍ خَدَشَ العوز كرامتهم، في بلدٍ يتعرض نِيلُه لخطرٍ وجودي، وينهش الفقر غالبيةُ أبنائه، وحُمِّلَت ثلاثة أجيالٍ قادمةٍ بديونٍ لم يستشرها فيها أحدٌ، ويتداعى عليها الأَكَلَةُ من أشقائها وأعدائها، وألفُ (شيلوك) يقتطعون كُلَّ يومٍ قطعةً غاليةً من لحمها الطيب .. هو مِقعدٌ من نارٍ لا من حرير .. وهي لحظةٌ مرعبةٌ لمن يستشعر المسؤولية َ ويُحِّسُ بها .. الإحساس نعمة.
ما أن بويع عمر بن عبد العزيز أميراً للمؤمنين حتى جئ له بمطايا من الخيل المطهمة الأصيلة (سيارات الرئاسة الفاخرة) فتركها وخرج يلتمس بَغْلَتَه .. وقال لمساعده ضُم هذا إلى بيت المال ..
وفعل مثل ذلك مع باقى مخصصات (الرئاسة) .. واحتجب عن الناس يتعبد فى مصلاه ويفكر ويتدبر ويدعو الله أن يُعينه .. ودخلت عليه زوجته فوجدته يرتجف من شدة النشيج، ودموعه تجرى على لحيته، فسألته (ما بِك يا أمير المؤمنين؟) ..
فأجابها (تفكرتُ فى الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعارى، والمظلوم، والمقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذى العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم فى أقطار الأرض، فعلمتُ أن ربى سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأن خصمى دونهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فخشيتُ ألا تَثْبتَ حُجَّتِي عند الخصومة، فرحمتُ نفسى «أى أشفقتُ على نفسى» فبكيت!).
وقرر أن يطبّق فوراً قانون (من أين لك هذا؟) على كبار رجال الدولة من بنى أُميّة، فما كان مُغتصباً من شخصٍ بعينه ردّه إليه، وما لم يعرف له صاحباً ضمّه إلى بيت المال.. وبدأ بنفسه فباع كل ما يملك ووضع ثمنه فى بيت المال .. ثم قال لزوجته (إن أردتِنى فرُدّى ما معك من مالٍ وحُلِّيٍّ وجواهر إلى بيت المال، وإنى لا أجتمع أنا وهو فى بيتٍ واحدٍ) فردّته جميعاً دون مناقشةٍ أو ترددٍ، وقد كان ما يملكه وما تملكه كثيراً جداً فقد كانا أبناء وإخوة ملوك.
خرج عمر إلى الناس شاحب الوجه يحمل هموم أمةٍ بأكملها.. وأعلن قراراته وكان مما قاله (إنى لستُ بخيرٍ من أحدٍ منكم ولكننى أثقلكم حِملاً).
كانت هذه مراسم تنصيب عمر بن عبد العزيز .. واغفروا لي الزَّج باسمه في مثل هذا السياق فالبَوْنُ شاسعٌ والمقارنةُ مُضحِكَةٌ مُبكِيَةٌ ولا تجوز.
أمَّا هنا فقد سِيقَ الأفاقون والأفَّاكون والمنافقون والمُغَّيَبون والمغلوبون على أمرهم زُمَرَاً إلى يوم الزينة الصاخب الباذخ في العاصمة الضرار للاحتفال باللاشئ.
عَزائي أنني أُشهِدُ اللهَ وأُشهِدُكم أنني لم أبخل بالنصيحة ووَجَّهْتُها مُخلِصةً صريحةً صادقةً في رسالتي المحذوفة عَشِّيَةَ ما سُمِّيَ بالانتخابات الرئاسية، وقد قُلتُ فيها:
(تقتضي الأمانة أن أُحَّدِثَك بِجَّدٍ عن شئٍ يعرف الأطفال فى حوارينا أنه الهزل المُجسد .. صديقُك مَن صَدَقَك لا مَن طَبَّلَ لك .. مصرُ تَسخر مما يحدث وتكتُم ضحكتَها ولا تُسمِعُك إلا ما يُرضيك ولا يُؤذيها .. وأُعيذك ساعة الحساب “آجلاً أو عاجلاً” أن تكون أولَ المُحاسَبين .. ولن تجد عندها أحداً من هؤلاء المنافقين المجرمين حولك .. سيكونون مشغولين بالرقص لغيرك، فولاؤهم للمنصب لا لشاغله.
إن مصر يا أخي بلدٌ عجوز .. بمعنى الحكمة لا الخَرَف ..
ومِنْ طول معايشة المستبدين، واتِّقاءً لبطش الفرعون وقوته الغاشمة، استنبط المصرىُ نظريته الخالدة “أَسْمِعْ الفرعونَ ما يُحب .. وافعل أنت ما تُحِّب” .. ما الذي يجبرك يا أخي على أن تكون هذا الفرعون؟ ..
سَمِعْتُكَ تُكرر “تُؤتِي المُلْكَ مَنْ تشاء” بمنطق أَنَّ المُلْكَ دليلُ رضا الله .. لا يا أخي .. إنَّ الله لا يَقصُرُ عطاءَه على الصالحين فقط، فهو يؤتي المُلكَ للبَّرِّ والفاجر والصالح والطالح والعادل والظالم .. ويُحاسِب على الاداء .. هذه المهزلة باطلةٌ قانوناً وحرامٌ شرعاً .. فهي خليطٌ من التزوير والنفاق والقهر والكذب واحتقار الشعب الكريم وإهدار المال العام والخاص .. فما الذي يجبرك يا أخي على حَمْلِ وِزرِها؟. تَخَّفَفْ.).
هكذا دَعَوْتُه ودَعَوْتُ مَلَأَه في شخصِه .. لكنني لَمَّا دَعَوْتُهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا .. فوا أسَفَاه .. أوَّلُ الطريق هو منتهاه.