البسايسة، قرية صغيرة في محافظة الشرقية، أصبحت نموذجًا ملهمًا للتنمية المستدامة والاكتفاء الذاتي من الطاقة في مصر.
بفضل رؤية وإصرار د. صلاح عرفة، أستاذ الفيزياء في الجامعة الأمريكية، تحولت هذه القرية من مجتمع يعتمد كليًا على الموارد التقليدية إلى مجتمع يكتفي ذاتيًا من خلال استخدام الطاقة الشمسية وتقنيات أخرى متطورة.
البسايسة.. حكاية أول قرية في مصر تكتفي ذاتيًا من الطاقة
في عام 1973، كان لدى د. صلاح عرفة، أستاذ الفيزياء في الجامعة الأمريكية، حلم كبير. حلم بأن تكون قريته الصغيرة “البسايسة” في محافظة الشرقية نموذجًا للتنمية المستدامة والاعتماد على الذات. كان هذا الحلم تحديًا كبيرًا، لكن د. عرفة كان مستعدًا لمواجهته بكل شجاعة وإصرار.
البداية.. العودة إلى الجذور
عندما عاد د. عرفة لقريته بعد سنوات من الدراسة والعمل في الجامعة الأمريكية، كان يرى أن العلم الذي تعلمه يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير على قريته. قرر أن يبدأ مشروعًا تنمويًا يساهم في تحسين حياة أهل القرية. ولكن، كانت الخطوة الأولى هي إقناع أهل القرية بالفكرة.
مواجهة التحدي.. إقناع الناس
كل جمعة، كان د. عرفة يزور القرية ويجتمع بأهلها بعد صلاة الجمعة في المسجد. في البداية، لم تكن الفكرة واضحة للكثير من الناس. كانوا يسمعون عن الطاقة الشمسية لأول مرة، ولم يكونوا يفهمون كيف يمكن للشمس أن تتحول إلى كهرباء تنير بيوتهم.
لكن د. عرفة لم يكن مستعدًا للاستسلام. بدأ يشرح الفكرة بشكل بسيط، باستخدام نماذج صغيرة لتوصيل المعلومة للناس. ومع الوقت، بدأ الناس يستوعبون الفكرة ويرون الفوائد التي يمكن أن يجنوها منها.
التخطيط والتنفيذ.. الخطوات الأولى
بعدما اقتنع أهل القرية بالفكرة، بدأ د. عرفة في التخطيط لتنفيذ المشروع. كانت الأولويات واضحة: الكهرباء، المياه، والصرف الصحي. قرروا أن يبدأوا بالكهرباء، لأنها كانت المشكلة الأساسية التي تواجههم.
تم إنشاء أول وحدة لتوليد الطاقة الشمسية في القرية. هذه الوحدة كانت عبارة عن خلية شمسية تمتص أشعة الشمس وتحولها إلى طاقة كهربائية. كانت الكهرباء تُخزن في بطاريات، لكي يتمكن الناس من استخدامها بالليل عندما لا تكون الشمس متاحة.
التمويل.. تحدي آخر
توفير التمويل اللازم للمشروع كان تحديًا كبيرًا. لكن د. عرفة وأهل القرية كانوا مستعدين لمواجهة هذا التحدي. الحل جاء من خلال إنشاء جمعية تنموية داخل القرية. كانت هذه الجمعية مسؤولة عن إدارة التنمية والطاقة في القرية.
كل بيت في القرية كان يدفع جزءًا من التكلفة. ومن لم يستطع، كان يدفع اشتراكًا شهريًا بسيطًا. الجميع كان مشاركًا في المشروع، وهذا ساهم في تقوية روح التعاون والمشاركة بين أهل القرية.
التوسع.. البسايسة الجديدة
بعد مرور عشرين سنة، لم تتوقف الفكرة عند البسايسة القديمة. قرر د. عرفة وأهل القرية نقل الفكرة لمكان آخر. وبالفعل، بدأوا مشروع “البسايسة الجديدة” في صحراء سيناء، بالقرب من رأس سدر.
في البسايسة الجديدة، استغلوا حوالي 750 فدانًا من الأرض الزراعية. استخدموا تقنيات متطورة مثل إعادة تدوير المخلفات الزراعية لإنتاج الغاز، واستخدام الطاقة الشمسية لإنتاج الكهرباء والحرارة. الموارد الطبيعية في تلك المنطقة ساعدتهم على تطوير المشروع وتحقيق اكتفاء ذاتي من الطاقة.
مشروعات أخرى.. جنة الوادي
من نجاح البسايسة القديمة والجديدة، ظهرت فكرة مشروع جديد في الوادي الجديد. كان هذا المشروع على مساحة 1250 فدانًا. في هذا المشروع، تم استخدام نفس التقنيات المتطورة التي استخدموها في البسايسة، لكن على نطاق أوسع.
التأثير الاجتماعي.. القضاء على الأمية والبطالة
لم تكن هذه المشروعات فقط لتحسين الحياة المادية لأهل القرى، بل كان لها تأثير اجتماعي كبير. بفضل هذه المشروعات، تمكنت القرية من القضاء على الأمية والبطالة. تم إنشاء ورش خياطة وتريكو ونجارة وحدادة، وهذا ساهم في رفع المستوى الاقتصادي للمرأة المعيلة.
الاستدامة: مستقبل مشرق
الآن، أصبحت البسايسة رمزًا للأمل والتغيير. أصبحت قرية البسايسة نموذجًا يُحتذى به في التنمية المستدامة والاكتفاء الذاتي. الفكرة التي بدأت بحلم د. عرفة أصبحت حقيقة، وأصبحت تلهم قرى أخرى في مصر والعالم لتبني حلول الطاقة المستدامة والتعاون المجتمعي.
قصة البسايسة تؤكد أن العلم والمعرفة يمكنهما تغيير حياة الناس للأفضل. تؤكد أن التعاون والمشاركة هما السبيل لتحقيق التنمية المستدامة. تؤكد أن الحلم يمكن أن يتحول لحقيقة، إذا كان هناك إصرار وعزيمة.
قصة البسايسة هي قصة أمل وتحدي ونجاح. تعلمنا أن المستحيل يمكن تحقيقه، إذا كان هناك عزيمة وإصرار. تعلمنا أن التعاون والمشاركة هما السبيل لتحقيق التنمية المستدامة والاكتفاء الذاتي. وتؤكد لنا أن المستقبل المشرق يمكن أن يكون بين أيدينا، إذا قررنا مواجهة التحديات والسعي لتحقيق أحلامنا.
تعكس قصة البسايسة كيف يمكن للعلم والمعرفة، عندما يتحدان مع التعاون المجتمعي، أن يحققا تغييرات جذرية في حياة الناس، مما يجعلها رمزًا للأمل والإصرار على تحقيق التنمية المستدامة في مصر