أحمد عبد الرحمن
كاتب في الشأن السياسي والعسكري.
ما جرى في مجمع الشفاء الطبّي من جرائم ضد الإنسانية ربما لم يتكرر خلال الحرب على غزة، مع ما تخللها من إعدامات ميدانية لعشرات الشبان بشبهة انتمائهم إلى المقاومة بعد خضوعهم لتحقيقات قاسية وإجبارهم على الإدلاء باعترافات تحت الضغط غير المسبوق. منذ انطلاق معركة “طوفان الأقصى” وما تبعها من أحداث يمكن وصف بعضها بالدراماتيكية، كتبت في موقع الميادين أونلاين الكثير من المقالات، تناولت في بعضها تطوّر المشهد العسكري والميداني والتداعيات التي يمكن أن تنتج عنه، وأشرت في أخرى إلى الأهداف الإسرائيلية المرجوّة من وراء استهداف المدنيين والمؤسسات الخدمية والبنى التحتية،
إضافةً إلى محاولة خلق واقع ديمغرافي جديد يساهم في إنشاء مناطق عازلة تلتهم أكثر من ثلث القطاع الساحلي الصغير، وتضغط سكانه الذين يزيدون على مليونين وربع مليون في أصغر مساحة جغرافية ممكنة، أملاً في دفعهم إلى الهجرة الطوعية، بعدما فشلت كل مساعي الاحتلال لتهجيرهم قسراً تحت نار صواريخه المدمرة وآلة حربه القاتلة. في كل مقالاتي، كنت أحكّم العقل، وأميل إلى لغة هادئة رزينة، كما هي عادتي في الحياة، إلا أنني اليوم وأنا أحاول استجماع بعض الكلمات من ذاكرتي المشوّشة قد أفقد للأسف جزءاً من تلك الرصانة والهدوء، بعد ما رأيته من مشاهد يندى لها الجبين، وما سمعته من شهادات صادمة قد لا أستطيع أن أنقل جزءاً كبيراً منها، لأنها في بعضها تبدو خيالية وغير قابلة للتصديق إلا لمن عايشها،
وفي البعض الآخر لفظاعتها وبشاعتها التي فاقت كل الحدود، وتجاوزت بمراحل كل حدود المنطق وأخلاق الحروب، وباتت بعيدة كل البعد عن الانصياع للقرارات الأممية المتعلّقة بحماية حقوق المدنيين في أوقات الحرب أو حتى تلك الخاصة بحقوق أسرى الحرب من المقاتلين. ما رأيته وما سمعته عمّا جرى خلال 13 يوماً من الحصار الخانق لمجمع الشفاء الطبي وما تخلّله من جرائم، يعدّ دون أدنى شك جرائم حرب يحاسب عليها القانون الدولي أو ما تبقّى منه بعدما هشّمته السطوة الأميركية التي سعت وما زالت من أجل تحويله إلى أداة للضغط على أعدائها، كما فعلت مع سوريا وروسيا وإيران وغيرها.
أما عندما يتعلّق الأمر بالكيان الصهيوني، فهذا القانون ينزوي في أدراج موصدة لا يتم فتح أقفالها إلا بحسب الحاجة الأميركية والإسرائيلية. وفي بعض الأحيان، يتم استغلال بعض بنوده لذر الرماد في العيون لا أكثر، كما جرى في محكمة العدل الدولية، التي لم تستطع كما هو حال مجلس الأمن العاجز إيقاف العدوان ومحاسبة المجرمين والقتلة الذين يتفاخرون بما حقّقوه من “إنجاز” قاموا خلاله بتدمير مجمع طبي مدني، إلى جانب قتلهم بدم بارد عشرات المواطنين الذين رفضوا إخلاء منازلهم وتمسّكوا بها، كما هي عادة الفلسطينيين على الدوام، رغم ما تعرّضوا له من جرائم ومذابح لا يبدو أنها ستتوقف قريباً للأسف الشديد.
مجمع الشفاء الطبي الذي أعلن “جيش” الاحتلال في تحدٍّ سافر لكل القيم الإنسانية وكل المواثيق الدولية أنه لن يستطيع بعد اليوم تقديم الخدمة الطبية لسكّان القطاع، وأنه نجح في إخراجه من الخدمة إلى الأبد، كان يُنظر إليه بأنه أحد أهم مقوّمات صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المنكوب، وأنه أحد أهم مفاصل الحياة التي لا غنى عنها، والتي تمد شعب القطاع ببعض الطاقة ليواصلوا صمودهم وثباتهم في ظل ما يتعرّضون له من إجرام وما يعانونه من كوارث، ولكنه أصبح للأسف الشديد أثراً بعد عين، بعدما أتت آلة الحرب الإسرائيلية المجرمة على معظم أقسامه الرئيسية والحيوية، ودمّرت جرافات الاحتلال مبانيه وطرقاته، وحتّى مقابره المستحدثة التي باتت تحتضن المئات من جثامين الشهداء بعد تعذّر الوصول إلى المقابر الأصلية أحياناً.
وفي أحيان أخرى، بعد امتلاء مقابر أخرى عن بكرة أبيها نتيجة عدد الشهداء الهائل في قطاع غزة. إلى جانب ذلك، تم تدمير كل الأقسام التخصصية، مثل قسم القلب، وغسيل الكلى، والتصوير الطبقي والمغناطيسي، ومختبرات بنك الدم، حتى المشرحة وثلاجات الشهداء تم تدميرها عن بكرة أبيها، فلا يترك الاحتلال وسيلة لقهر الفلسطينيين أو دفعهم إلى إعلان الاستسلام ورفع الراية البيضاء إلا واستخدمها، من دون النظر إلى أي مواثيق دولية، ومن دون الاكتراث لأي انتقادات، أو الاستماع إلى أي مناشدات، لأنه ببساطة يحظى بمظلة حماية قانونية وسياسية توفرها له سيّدة الإجرام في العالم الولايات المتحدة الأميركية،
وفي ظل عجز عربي وإسلامي مخزٍ ربما يصل في بعض الأحيان إلى تواطؤ ومشاركة من خلف الستارة، حرصاً على كراسٍ زائلة ومغانم مؤقتة، مع بعض الاستثناءات من الأحرار والشرفاء في أمتنا التي ما زلنا نراهن عليها. ما جرى في مجمع الشفاء الطبّي من جرائم ضد الإنسانية ربما لم يتكرر خلال الحرب على غزة، مع ما تخللها من إعدامات ميدانية لعشرات الشبان بشبهة انتمائهم إلى المقاومة بعد خضوعهم لتحقيقات قاسية وإجبارهم على الإدلاء باعترافات تحت الضغط غير المسبوق، إلى جانب ما جرى من عمليات اغتصاب لبعض النساء والفتيات داخل مجمع الشفاء وفي محيطه، والتي للأسف قد لا تسمح العادات والتقاليد والخوف على السمعة من كشف معظمها، إضافة إلى التدمير الممنهج لكل مقومات الحياة في مربع سكني كامل يعتبر من الأكثر نشاطاً وحيوية بسبب موقعه الجغرافي المميز، إلى جانب الكثير من التفاصيل الصغيرة التي ستتكشف تباعاً. كل ذلك يأتي في إطار الرغبة الإسرائيلية الواضحة والمعلنة في تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير صالح للسكن،
وهو كما كتبنا أكثر من مرة أنه الهدف الأساسي للعدوان على غزة التي كانت طوال سنوات الاحتلال حجر عثرة في طريق اكتمال المشروع الصهيوني الهادف إلى إنشاء مملكة بني صهيون الممتدة من النيل إلى الفرات، ومثّلت في كثير من المحطات النضالية للشعب الفلسطيني مرتكزاً أساسياً ساهم في تطوير أدائهم الجهادي وتعزيز صمودهم في أرضهم والحفاظ على ثوابتهم الوطنية الراسخة في وجه مشاريع التصفية والانهزام. ربما نجح الاحتلال، بحسب كثير من المشاهدات، في تحويل قطاع غزة إلى منطقة فاشلة اقتصادياً، بعدما دمّر كل منشآتها التجارية والصناعية، ودفع معظم رؤوس الأموال إلى الخروج منها حفاظاً على حياتهم أحياناً، وفي أحيان أخرى، على مصالحهم ومشاريعهم أو ما تبقّى منها،
وربما نجح أيضاً في تحويل القطاع المحاصر منذ 18 عاماً، والذي كان قبل الحرب يفتقد الكثير من مقوّمات الحياة، فيما أصبح الآن يفتقد معظمها، إن لم يكن كلها، إلى أراضٍ قاحلة لا تُصلح للزراعة بعدما دمر كل الأراضي الزراعية وجرفها، وحوّل بعضها إلى “كراجات” لدباباته وآلياته العسكرية، فيما جعل الجزء الآخر غير صالح للزراعة، بفعل المواد السامة والكيميائية التي تحتويها قنابله الضخمة التي قصف بها كل شبر من أراضي القطاع، والتي تركت في السابق آثاراً كارثية في صحة سكان القطاع، ولا سيما بعد عدوان 2008 الذي وصلت بعده نسب المصابين بمرض السرطان إلى مستويات قياسية لم تكن موجودة من قبل. وربما نجح الاحتلال أيضاً في إيقاف المسيرة التعليمية، وساهم في ضياع أحلام الكثير من الطلبة، ولا سيما