مقالات ورأى

أنور الهواري يكتب : الديمقراطية الدينية

فور إعلان المرشح الفائز في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة في إيران في 6 يوليو 2024 م، صرح ناصر كنعاني، المتحدث باسم الخارجية، أن الانتخابات ساعدت في مأسسة الديمقراطية الدينية، وهي الانتخابات الرئاسية الرابعة عشر، منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران،

استوقفني مصطلح “الديمقراطية الدينية”، وهو جديد على الحضارة الإسلامية قديماً وحديثاً، فقد عرف المسلمون فكرة الخليفة أو الإمام وكلاهما نائب عن حضرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مثلما الصلاة لها إمام واحد، فكذلك السياسة والحكم والكلمة العليا لها خليفة واحد أو إمام واحد،

المؤمنون لهم إمام واحد ولهم أمير واحد، هذا في الفقه النظري المستمد، من مفهوم أن المسلمين أمة واحدة، تعبد إلهاً واحداً ولها كتاب واحد وشريعة واحدة.

لكن في الواقع العملي كانت السياسة- بعد الاقتصاد- أول مصدر للنزاع بين المسلمين من صدر الإسلام، حتى سقطت آخر خلافة ذات طابع ديني قبل مائة عام بالتمام والكمال في 3 مارس 1924 م،

عندما قرر البرلمان التركي- الجمعية الوطنية التركية الكبرى- خلع السلطان عبد المجيد الثاني آخر الخلفاء في تاريخ العثمانيين،

كما في تاريخ الإسلام. كانت السياسة والحكم والصراع الدموي عليهما هي الآفة التي خذلت الإسلام، كما كانت العاهة المستديمة التي أرهقت، ثم أنهكت ثم أسقطت الحضارة الإسلامية، حتى اختفت إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية، وصاروا تابعين- بالتقليد أو بالأمر الواقع- لسطوة الحضارة الغربية المتفوقة المهيمنة.

باختصار شديد: كان الحكم للأقوى، السلطة تؤخذ بالسلاح، ثم تسقط أمام سلاح جديد، يكون أعتى وأقوى، تركت الحضارة الإسلامية تراثاً عظيماً في كل مجالات الإبداع الإنسانية، وقدمت للإنسانية فقهاء وقضاة ومشرعين وأدباء وشعراء ولغويين ونُحاة و فلاسفة ومتصوفة ومؤرخين ومفسرين ومحدثين، تنحني لهم القامات إجلالاً وإكباراً، إلا في التراث السياسي الخاص بمسألة الحكم،

ومن يتولى الحكم، ومن يترك الحكم، فقد قل فيها التشاور والتراضي والتوافق، وكثر فيها منطق القوة وغلب عليها العنف، سواء في الحصول على السلطة أو في الحفاظ عليها والبقاء أطول فترة ممكنة فيها، وقد أحسن المقريزي التعبير عن هذه الحالة بقوله في ص 72 من الجزء الأول من كتابه “اتعاظ الحنفا بأخبار الفاطميين الخلفا”،

حيث يقارن بين المهدي مؤسس الدولة الفاطمية، وأبي العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية، بأن كلا الرجلين خرج يطلب الخلافة والسيف يقطر دماً. كانت الدول في تاريخ المسلمين تتأسس بالعنف، ثم تسقط حين تسقط بالعنف المضاد. كان العنف وليس الشورى هو الأداة المعتمدة لضمان تماسك السلطة،

وفرض القانون ومنع الفوضى التي تفتح الباب للانقسام، ثم التشرذم ثم الانهيار، كان هذا هو المبرر الفقهي النظري والأخلاقي للسيوف التي تقطر دماً، والرؤوس التي تُنزع عن أجساد أصحابها، ثم يُلقى الجسد، حيثما استقر على الأرض، ثم تُحمل الرأس على أسنة الرماح إلى حيث قصر الخليفة أمير المؤمنين،

كانت هذه هي دوائر الصراع على السلطة وحولها، ومن يرصد الحروب المسلحة بين المسلمين والمسلمين، ويقارنها بالحروب المسلحة بين المسلمين وغير المسلمين، سوف يقف على حقيقة السياسة والسلطة والحكم في تاريخ المسلمين، وهي حقائق تتشابه- في الواقع- مع مثيلتها عند غير المسلمين، فقد تحاربت أمم أوروبا المسيحية كاثوليكية وأرثوذكسية وبروتستانتية،

فيما بينها بما يكاد يتفوق على حروبها مع غيرها سواء من المسلمين أو غيرهم من شعوب الأرض الذين اعتدت، ثم طغت ثم تجبرت عليهم طاقة العدوان الأوروبي قديماً وحديثاً.

تراث العنف السياسي في العصور الوسيطة من تاريخ المسلمين كامن ومضمر في بنية السلطة الحديثة في العالم الإسلامي، تستطيع أن تتبع جذور العنف الدموي الذي مارسه صدام والبعث في العراق إلى تراث العباسيين الزاخر،

ومن قبله يمكنك تعقب جذور العنف الذي مارسه، ويمارسه آل الأسد والبعث في سوريا إلى التراث الأموي الزاهر، وتستطيع أن ترد عنف الدولة الحديثة في مصر إلى تراث الفاطميين، ثم الأيوبيين ثم المماليك ثم العثمانيين، مذبحة محمد علي باشا للمماليك،

كانت سلوكاً معتاداً لعدة قرون سواء عند المماليك أو العثمانيين ذاتهم، ثم كمية العنف المبذول بين جيوش محمد علي باشا، وجيوش الوهابيين في الجزيرة العربية 1811 – 1818م،

نموذج كاف للدلالة على المدى الذي وصلت إليه إراقة الدماء بين المسلمين حتى العصور الحديثة بزعم الحفاظ على وحدة المسلمين، وطاعة الخليفة وعدم الخروج على أمير المؤمنين.

ينقل محمد جواد مغنية 1904 – 1979، وهو من أفاضل فقهاء الشيعة العرب- من شيعة لبنان- في ص 196 من كتابه ” الشيعة في الميزان ” الصادر عن دار الشرق، ينقل عن ياقوت الحموي من كتابه “معجم البلدان” قوله إنه: “مرً في سنة 617 هجرية على مدينة الري- الآن هي مدينة إيرانية، تقع جنوب شرق العاصمة طهران- فوجد أكثرها خراباً،

ولما سأل بعض عقلائها عن السبب، أجابوا بأنه كان في المدينة ثلاث طوائف: شيعة وأحناف وشافعية، فتحالف الأحناف والشافعية ضد الشيعة، وتطاولت بينهم الحروب، حتى أنهم لم يتركوا من الشيعة إلا من هرب ونجا بنفسه.

ثم بعد أن تحالفوا للقضاء على الشيعة، بدأوا يتحاربون فيما بينهم، الأحناف ضد الشافعية، والشافعية ضد الأحناف، وانتصر الشافعية، وخربت ديار الشيعة والأحناف”. انتهى الاقتباس بتصرف خفيف جداً.

أوروبا كانت أشد دموية من المسلمين، فيما يخص السياسة والحكم والسلطة، كذلك كانت أشد تعصباً بعشرات المرات، فيما يخص حرية العقيدة والمذهب والطائفة، لكنها خاضت- على مدى خمسة قرون- نضالاً فريداً للتخلص من الآفتين معاً،

آفة العنف في إدارة السياسة، كما آفة العنف في التعصب الديني، أنجزت أوروبا المهمة بنجاح، ثم تربعت على عرش الحضارة الإنسانية.

عندنا الكفاح من أجل سلطة سلمية مع حريات عقيدة وتفكير وتعبير، ما زال في أول الطريق، والحل لن يكون فيما أسماه الناطق في الخارجية الإيرانية بمأسسة الديمقراطية الدينية، فهذا حل وهمي، لم يكن ولن يكون.

المصدر مصر 306

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى