مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: اليوم يُحاكم مجرم واحد .. ويُدان وطن بأكمله

اليوم تُفتح أبواب محكمة جنايات دمنهور لتستقبل أولى جلسات محاكمة المتهم في جريمة هتك عرض الطفل ياسين.

مشهد جديد يُضاف إلى مسلسل الرعب الاجتماعي الذي لا تُعرض حلقاته في شاشات الدراما، بل تُعرض في وجوهنا، في بيوتنا، في مدارسنا، وفي قلوب أطفالنا.

نحن لا نعيش أزمة فردية، ولا نتعامل مع واقعة عابرة، بل نحن نواجه انهيارًا صامتًا ومتكررًا في جدران الأمان النفسي والاجتماعي الذي من المفترض أن يحمي طفولة مثل ياسين.

هذا ليس مجرد يوم لمحاكمة مجرم، بل يوم لمحاكمة صمت طويل، وتواطؤ ضمني، وتراخٍ مجتمعي في مواجهة البشاعة.

ياسين ليس حالة شاذة ولا الأولى، وما خفي كان – للأسف – أشد فظاعة مما نعرف .. أنا لا أكتب عن واقعة معزولة، بل أكتب عن دمٍ طري على وجه الوطن، عن نظرة طفل انكسرت، عن أم فقدت قدرتها على النوم، عن أب يصرخ داخله ألف مرة دون أن يسمعه أحد.

وبكل صراحة، ما يحدث حولنا من وقائع صادمة، مثل مأساة طفل مدرسة دمنهور، لم يعد مجرد “استثناء”، بل أصبح مشهدًا متكررًا يُشير إلى خلل عميق في مجتمعنا.

حين يخرج مسلسل تليفزيوني مثل “لام شمسية”، فهو لا يبالغ ولا يفتعل، بل يعكس واقعًا أكثر قسوة مما يُعرض على الشاشة.

ما نراه ونسمعه يوميًا — وما لا يُنشر — أبشع بكثير، وكأننا فقدنا القدرة على الشعور بالخطر أو الغضب. وفي ظل هذا التراخي العام، أعتقد أن المجتمع بحاجة إلى صوت صارخ يعبّر عنه بلا خوف، تمامًا كما فعل المستشار خالد بك أبو رحاب في مرافعته الشهيرة.

نحتاج من يمثلنا بهذه الجرأة والوضوح، ليصرخ بالحقيقة التي يحاول كثيرون دفنها تحت ستار المجاملة أو الصمت. لأن ما خفي كان – ولا يزال – أعظم، والسكوت عليه مشاركة في الجريمة.

أيها الناس، لسنا أمام نص قانوني جامد يُطبق، بل أمام روح عدالة تُنتهك كل يوم إذا لم نقف في وجه هذه الكوارث بكل ما نملك من صوت وقوة وحق.

كيف يهنأ ضمير قاضٍ إن لم يشعر أن في يديه خلاص مجتمع؟ كيف يُغمض محامٍ عينيه عن دمعة أم وهو يُفاوض على جرح ابنها؟ كيف نصمت نحن – الناس – وقد أصبح المسكوت عنه هو الجحيم ذاته؟

هناك من سيقول إن القانون سيأخذ مجراه، وأنا أقول: إن لم يُصرخ القانون صرخة تُرعب كل من تسوّل له نفسه إيذاء طفل، فهو قانون خائف.

نريد قضاء لا يكتفي بالنطق بالحكم، بل يلقنه درسًا يهز الأرض تحت أقدام كل وحش ينتظر لحظة ضعف ليختبئ خلفها.

ياسين لا يعرف كيف يعبر عن وجعه، لكنه يعرف تمامًا كيف انتهت طفولته عند لحظة معينة .. هذه اللحظة، أيها السادة، يجب أن تتحول إلى لحظة مفصلية في ضميرنا الجمعي. لحظة نقرر فيها أن لا مجاملة بعد اليوم مع الجناة، ولا مساومة على ألم طفل، ولا تسوية مع الجحيم.

كفانا ركاكة وخوفًا في الحديث عن مثل هذه القضايا .. هذه ليست قضية شرف، بل قضية إنسانية كاملة .. هذه ليست نقطة في ملف، بل جرح في وجه وطن.

هل رأيتم وجه طفل تحطم؟ هل شعرتم يومًا بثقل نظرة انكسار في عيون من لا يملك حتى حق الدفاع عن نفسه؟ هذه المحاكمة يجب أن تُخلد، لا لأنها قضية رأي عام، بل لأنها اختبار لنا جميعًا: هل نحن أهل لهذا البلد أم مجرد متفرجين؟

لقد أثبتت الأيام أن هناك قلوبًا تنبض بالشجاعة، وتصرخ بالحق، ولعل فينا من لا ينسى كيف تحولت مرافعة خالد بك أبو رحاب إلى جدار منيع أمام الجريمة في قضايا مشابهة.

هذا الرجل لم يكن فقط محاميًا، بل صوت وطن مذبوح قرر أن ينهض .. نحن لا نحتاج فقط قانونًا، بل نحتاج خالدًا جديدًا، يعرف أن العدل ليس ورقة تُقرأ، بل زلزال يجب أن يُحدثه في وجدان القاضي قبل أن يُنطق بالحكم.

كم من “ياسين” لم يُكتب له أن يصل إلى المحكمة؟ كم من طفل صرخ داخل وسادته ولم يسمعه أحد؟ نحن أمام وباء مسكوت عنه، متغلغل في المؤسسات، متواطئ فيه الإعلام بالصمت أحيانًا، وبالتطبيع أحيانًا أخرى.

مسلسل “لام شمسية” لم يأتِ من فراغ، بل من واقع مفزع .. هذه المسلسلات تُكتب من دم الضحايا، وتُبنى مشاهدها من دموع الأمهات، لكنها لا تكفي، لأنها تنتهي عند شارة النهاية، بينما وجع الأطفال لا نهاية له.

نحن بحاجة إلى صرخة تشق السماوات .. نريد محكمة لا تحاكم المتهم فقط، بل تحاكم كل منظومة خانت الطفل .. المدرسة التي لم تحمه، المجتمع الذي صمت، والضمير العام الذي اعتاد التأقلم. نريد حكمًا يُكتب في التاريخ، لا في أرشيف المحكمة فقط.

هذه الجريمة يجب أن تصبح لحظة تغيير، لا فقط لحظة عقاب. يجب أن يكون اليوم بداية لمعركة لا هوادة فيها ضد التحرش، ضد التستر، ضد الخوف. المجتمع الذي لا يحمي أطفاله مجتمع ميت حتى لو أنجب ألف طفل كل يوم. وإن لم ننتصر لياسين اليوم، فلن ننجح في حماية أحد غدًا.

أيها القضاة، أيها الناس، أيها المشرعون، انظروا في عيون الطفل ياسين جيدًا. لا تبحثوا فقط عن الأدلة، بل اسمعوا صوته الخفي، واسمعوا صوتنا جميعًا خلفه، لأننا هذه المرة لن ننسى، ولن نسامح، ولن نهدأ.

هل نملك الشجاعة لنجعل من هذه المحاكمة صرخة بداية، لا مجرد نهاية لحكاية حزينة؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى