ثقافة وتاريخ

محمد عبده: معلّم الأجيال وقدوة وطنية خالدة في ذاكرة المنصورة

في مدينة المنصورة، حيث يختلط عبق النيل بتاريخ طويل من العلم والروح، وُجد رجالٌ تركوا بصمات لا تُمحى.

من بينهم يبرز اسم أستاذ الأجيال محمد عبده، الرجل الذي لم يكن مجرد معلّم للغة العربية والدين، بل كان قدوة وطنية ومربّيًا فذًا، وحافظًا للقرآن، وصوتًا للحكمة في زمنٍ كان فيه الصمت أبلغ من أي خطاب.

النشأة والبدايات: من قلب المنصورة .. رجل لا يُنسى

وُلد محمد عبده في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، في حي الحسينية الشعبي، حيث نشأ بين أهلٍ عرفوا معنى الترابط والقيم الأصيلة.

منذ نعومة أظافره، أظهر ميولًا نحو العلم والدين، وكان شغوفًا باللغة العربية والقرآن الكريم. تلقى تعليمه في مدارس المنصورة ثم التحق بكلية دار العلوم، وقد نال تأهيلاً يؤهله لتدريس اللغة والدين.

التعليم رسالة وليست وظيفة

في زمنٍ كان التعليم فيه وسيلة لكسب الرزق فقط عند البعض، اختار محمد عبده أن يكون التعليم بالنسبة له رسالة سامية.

التحق بالعمل في مدرسة الأمريكان (المعروفة حاليًا بمدرسة السلام الخاصة للغات)، وهناك بدأت رحلته مع الأجيال.

كان يُعامل الطلاب كأبنائه، لا يفرق بين غني وفقير، ولا يميز بين طالب متفوق وآخر متعثر، بل يرى في كل طالب مشروع إنسان صالح يجب أن يُرعى ويُصقل.

مُعلم القرآن: المُضيء لطريق النور

لم يكتفِ بتدريس المنهج المدرسي فحسب، بل تطوع لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال في المسجد أو حتى في منزله.

جلساته كانت مفعمة بالروحانية، حيث كان يشرح الآيات ويُقرنها بالحياة اليومية، مبينًا حِكمها وأثرها على السلوك.

كان كثيرًا ما يُردد: “من يحفظ القرآن، لا تضل قدمه، ولا يضيع قلبه”. هكذا ربّى جيلاً يحمل في صدره كتاب الله، ويُجيد نُطقه كما نزل.

الزعيم الوطني: صاحب الموقف والرؤية

لم يكن محمد عبده بعيدًا عن قضايا وطنه. كان رجلًا وطنيًا بامتياز، يُشارك في المناسبات القومية، ويحث طلابه دائمًا على حب الوطن وخدمته. كان يرى أن الوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالعقول المستنيرة والقلوب المخلصة.

عُرف في منطقته بالحكمة والرأي الصائب، وكان يُستشار في الشؤون العامة. لم يترشح لأي منصب، لكنه كان زعيمًا شعبيًا بحق، محط احترام الجميع.

علاقته بالمجتمع: قلب نابض بالمحبة

كان محبوبًا من الجميع، من طلابه وزملائه وجيرانه. لم يُعرف عنه يومًا أنه تأخر عن مساعدة أحد، أو أن رفض يدًا ممدودة إليه.

في شهر رمضان، كان يوزّع الطعام على الفقراء، وفي الشتاء، يتكفل ببعض الطلاب الذين لا يملكون ثمن الدفاتر أو الملابس.

شهادات من عرفوه

يقول أحد طلابه السابقين “علّمني أستاذ محمد عبده كيف أكون إنسانًا قبل أن أكون طالبًا. كان يصحّح أخطائي برفق، ويُشعرني أنني قادر على التغيير.”

ويقول زميل له في المدرسة “كان إذا دخل غرفة المدرسين، عمّ الهدوء والاحترام، لا بكبرياء، بل بهيبة الصدق والاتزان.”

شهادة الدكتور أيمن نور: تلميذ أصبح زعيمًا

في لفتة وفاء نادرة، كتب الدكتور أيمن نور – الزعيم الليبرالي ورئيس حزب غد الثورة – عن أستاذه محمد عبده:

“مدينٌ أنا – بعد فضل الله تعالى ودور أمي – بذلك الفضل أيضًا لرجلٍ فذٍّ، لا تزال صورته تعيش في ذاكرتي كما لو كانت مشهدًا من زمنٍ بعيد.

إنه أستاذي الجليل في المرحلة الابتدائية والإعدادية: الأستاذ محمد عبده، الذي كان يتردد يوميًا على منزلي، بهمة الأبوة والصبر، ليعينني على حفظ القرآن الكريم، ويعلمني آداب اللغة العربية، وأسرارها، وفنونها.

كان يرتدي الطربوش الأحمر التركي، وربما كان آخر من ظل يرتديه في مصر، يحمله بوقار كما يحمل العالِم مصباح الحكمة.

كان هذا الرجل بالغ الرقة والعذوبة، وكان له من اسمه نصيبٌ عظيم، فلم يشبه الإمام محمد عبده في اسمه فقط، بل في روحه ومنهجه، وفهمه المستنير للدين.

وقد كان لهذه المصادفة، التي جمعت بين الاسم والمعنى، أثر عميق في نفسي، فكان دافعي الأول للاهتمام بفكر الإمام محمد عبده، وكتبه، وأفكاره التي رأيت في أستاذي انعكاسًا حيًّا لها.

وما لا يمكن أن يغيب عن الذاكرة أن أستاذنا محمد عبده، كان يؤدي الدور نفسه مع زميلٍ لي في ذات المدرسة، الإعلامي الشهير توفيق عكاشة، الذي كان يتلقى مثلي دروس القرآن واللغة العربية على يد هذا الأستاذ النبيل.

رحم الله أستاذنا محمد عبده، وسأظل ما حييت مدينًا له، ممتنًا لجميله، رافعًا له أكف الدعاء بظهر الغيب.”

الإرث المعنوي: ما بعد الرحيل

ربّى محمد عبده عشرات، وربما مئات الآلاف من الطلاب، الذين صاروا أطباء ومهندسين وأساتذة، لكن كلهم يتفقون أن ما حملوه من أستاذهم لم يكن فقط العلم، بل منظومة قيم متكاملة: الاحترام، الأمانة، حب اللغة، والانتماء الحقيقي للدين والوطن.

الوفاة: رحيل الجسد وبقاء الأثر

توفي محمد عبده منذ سنوات طويلة، في صمتٍ يشبه تواضعه. لم تُكتب عنه الصحف، ولم تُقم له تماثيل، لكن اسمه لا يزال يتردد بين أهل المنصورة، خصوصًا من تلقوا العلم على يديه. في كل بيت من بيوت طلابه، تُقرأ الفاتحة على روحه، وتُستعاد ذكراه.

ما يُخلّد الرجال

لا يُخلَّد الإنسان بما يملكه، بل بما يزرعه في قلوب الآخرين. وقد زرع محمد عبده في قلوب طلابه وأهله وبلده بذور المحبة والاحترام والعلم، فاستحق أن يُذكَر كقدوة وزعيم تربوي ووطني.

لقد رحل أستاذ محمد عبده، لكنه باقٍ معنا، في الكلمة الطيبة، في آية نحفظها بصوته، في تصرف نتخذه لأننا تعلّمنا منه الصواب. إن من يُعلّم القرآن ويربّي على الأخلاق، لا يموت أبدًا.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى