شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : ورقة من مذكراتي: آية كريمة جعلتني ليبراليًا يؤمن بحق الاختلاف وقبول الآخر


ثمة لحظات صغيرة، لكنها تغير مجرى العمر كله.
في طفولتي الباكرة، لم تكن الحرية حلمًا بعيدًا، بل كانت تنسج خيوطها الدقيقة بين آيات القرآن التي أحفظها، وبين قصائد الحرية التي كانت أمي تزرعها في روحي كزهور برية.
نشأت في بيت تتلاقى فيه الكلمة مع الإيمان، والحرية مع النص، والعقل مع المحبة.
كانت أمي، أستاذة الأدب الفرنسي، مرآتي الأولى إلى عالم الفكر.
استقيت منها منذ نعومة أظافري حب أمهات الكتب التي تكرس قيم الحرية، تمامًا كما كانت تحرص، بنفس المثابرة، على تحفيزي لحفظ أجزاء من القرآن الكريم، مثل جزء عم، قد سمع، تبارك، الحديد،
وصور متفرقة مثل يس، الرحمن، يوسف، الكهف، وأجزاء من البقرة.
لم تكن ترى بين العلم والدين خصومة، بل كانت تدرك أن الحرية الحقة لا تنبت إلا في أرض الإيمان العميق.


ومدينٌ أنا – بعد فضل الله تعالى ودور أمي – بذلك الفضل أيضًا لرجلٍ فذٍّ، لا تزال صورته تعيش في ذاكرتي كما لو كانت مشهدًا من زمنٍ بعيد.
إنه أستاذي الجليل في المرحلة الابتدائية والإعدادية: الأستاذ محمد عبده،


الذي كان يتردد يوميًا على منزلي، بهمة الأبوة والصبر، ليعينني على حفظ القرآن الكريم، ويعلمني آداب اللغة العربية، وأسرارها، وفنونها.
كان يرتدي الطربوش الأحمر التركي، وربما كان آخر من ظل يرتديه في مصر، يحمله بوقار كما يحمل العالِم مصباح الحكمة.


كان هذا الرجل بالغ الرقة والعذوبة، وكان له من اسمه نصيبٌ عظيم، فلم يشبه الإمام محمد عبده في اسمه فقط، بل في روحه ومنهجه، وفهمه المستنير للدين.


وقد كان لهذه المصادفة، التي جمعت بين الاسم والمعنى، أثر عميق في نفسي، فكان دافعي الأول للاهتمام بفكر الإمام محمد عبده، وكتبه، وأفكاره التي رأيت في أستاذي انعكاسًا حيًّا لها.


وما لا يمكن أن يغيب عن الذاكرة أن أستاذنا محمد عبده، كان يؤدي الدور نفسه مع زميلٍ لي في ذات المدرسة، الإعلامي الشهير توفيق عكاشة،
الذي كان يتلقى مثلي دروس القرآن واللغة العربية على يد هذا الأستاذ النبيل.


رحم الله أستاذنا محمد عبده، وسأظل ما حييت مدينًا له، ممتنًا لجميله، رافعًا له أكف الدعاء بظهر الغيب.


كانت تلك الآيات الكريمة التي تلوتها صغيرًا، وأنا أستمع لهمس أمي وأستاذي في الأفق، تصنع داخلي يقينًا مبكرًا أن الإسلام، في جوهره، لا يُلغي العقل ولا يُصادر الرأي، بل يحتفي بالاختلاف بوصفه صورة أخرى من صور رحمة الخالق.


ومن بين تلك الآيات، استقرت في قلبي هذه الآية، كأنها صدى خفي لنداء الحرية الإلهي:
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
(سورة الزمر – الآية 46).
علمتني هذه الآية أن الله وحده هو من يحكم بين المختلفين، لا سلطان لبشر على ضمير بشر، ولا وصاية لفقيه أو حاكم على عقل إنسان.
أضاءت كلمات سيدنا علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، هذا المعنى حين قال:


“الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.”
وأضاءه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“اختلاف أمتي رحمة.”
كنت أسمع هذه الكلمات كأنها دعوة سماوية لرفض الغلو، والجمود، والاستعلاء باسم الدين أو الحقيقة، والتمسك بلين المحبة، وسعة العقل.
وجدت صدى تلك القيم لاحقًا عند عبد الرحمن الكواكبي، الذي قال في كتابه العظيم “طبائع الاستبداد”:
“الحرية هي روح الدين، وإن أعظم النكبات أن يتحول الدين إلى أداة للاستبداد.”
وسمعت أصداءها عند رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كتب في رحلته الشهيرة:
“ما من دين سماوي إلا ويدعو إلى حرية الفكر، ولا حرية للإنسان إلا إذا أطلق له عنان العقل.”
وعلى أبواب الأزهر، قرأت لاحقًا كلمات الشيخ حسن العطار، الذي قال:
“العلم في هذا الزمان أوسع منه في سالف الأزمان، فلا يجوز للمسلمين الجمود على كتب الأقدمين.”
كما أيقظني فكر الشيخ عبد الحليم محمود حين قال:
“لا جمود في الإسلام، ولا قطيعة بين العقل والدين، بل هما توأمان يولدان معًا ويكبران معًا.”
من كل هذا النور، عرفت أن الليبرالية ليست قطيعة مع الدين، بل هي امتداد روحي له، حين يُفهم بمعناه الصحيح: حرية العقل، رحابة الضمير، قبول الاختلاف، وتواضع الاجتهاد أمام علم الله الذي لا تحده حدود.


كان حفظي للقرآن بإلحاح أمي، ومثابرة أستاذي محمد عبده، هو البداية الحقيقية لطريق الحرية.
وكان وعيي بأن الله، لا أحد سواه، هو الحكم بين عباده، هو البداية الحقيقية لطريق القبول بالآخر.


لهذا، لم يكن انحيازي لقيم الحرية خيانة لديني، بل وفاء لجوهره الأول الذي قال: {لا إكراه في الدين}.
ولا كان إيماني بالحق في الاختلاف، خيانة للوحدة، بل تأكيدًا أن الوحدة لا تقوم على القهر، بل على المحبة والعدل والتنوع.


علمتني تلك الآية الكريمة أن اختلافنا لا ينقض إنسانيتنا، وخلافنا لا يفسد محبتنا، وأن الخلاف في الرأي فطرة لا بدعة، ونبراس لا وصمة.
لهذا، كلما ادلهمّ ظلام القهر والاستبداد، عدت إلى نور تلك الآية، أرتلها في قلبي، وأجدها أصدق مرآة لعقيدتي، وحريتي، وإنسانيتي.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى