
عاجل وخطير..
في واحدة من أكثر اللحظات السياسية ابتذالًا وفجاجة، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم السادس والعشرين من أبريل ٢٠٢٥، معلنًا أن السفن الأمريكية، مدنية كانت أو عسكرية، يجب أن تعبر بحرية عبر قناة بنما وقناة السويس، دون أن تدفع رسوم عبور أو تخضع لأي إجراءات سيادية. لم تكن كلمات ترامب مجرد انفعال طارئ، بل كانت إعلانًا سافرًا عن رغبة دفينة في إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، إلى أيام الاستعمار القديم حين كانت الطرق والموانئ تُفتح وتُغلق بأمر المستعمر لا بسيادة الأوطان.
ما زاد المشهد فظاظة، هو تزامن تصريحات ترامب مع تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي مايك والتز، الذي تحدث عن “استعادة حرية الملاحة” وكأن العالم ساحة خالية لمن يملك قوة أكبر. لم تكتف واشنطن بالتصريحات، بل شكلت لجنة فدرالية أمريكية للتحقيق في ما زُعم أنه مخاطر تهدد السفن الأمريكية في قناة السويس، لجنة بدأت عملها في شهري مارس/أبريل الماضيين، وطلبت من مصر تقديم تعليقات رسمية على حوادث غامضة، لا تعرف أهدافها الحقيقية إلا من خلال القراءة بين السطور.
هذه اللجنة، التي تملك صلاحيات فدرالية، تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا باستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية والسياسية، في حال لم تخضع مصر لما تراه واشنطن مناسبًا. بلطجة جديدة تتوارى خلف قناع التحقيقات الشكلية، وأدوات الضغط القانوني الملفق، والهدف المعلن هو حماية الملاحة، أما الهدف الخفي فهو فرض الوصاية السياسية، وابتزاز سيادة الدول تحت وهم التفوق الحضاري والقانوني.
قناة السويس التي حفرتها دماء المصريين لم تكن يومًا ساحة للمزاد الدولي، ولا طريقًا عامًا لمن أراد أن يعبر بلا احترام أو إذن. هذه القناة رمز للسيادة الوطنية، وخط أحمر لا يحق لأحد تجاوزه مهما علت أصواته أو احتدت تهديداته. محاولة ترامب لضم السويس إلى مزرعته الخاصة ليست إلا امتدادًا لماضٍ بغيض يرفض أن يموت، رغم أن العالم قد تغير، والوعي قد تبدل، والحقائق الجديدة باتت تفرض نفسها على الخارطة الدولية.
ما يجري ليس مجرد زلة لسان سياسية، بل مؤشر عميق على اهتزاز مكانة الولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد. لم تعد أمريكا قادرة على فرض إرادتها بقوة السلاح أو بسطوتها الاقتصادية كما كانت تفعل عقودًا مضت. الشمس التي كانت تشرق وتغرب تحت الراية الأمريكية بدأت تميل نحو الغروب، والعالم الذي كان يقف صفًا في طابور الأوامر ينتفض الآن بحثًا عن مسارات حرة.
الولايات المتحدة لا تزال القوة الأكبر سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، لكن هذه القوة لم تعد كافية لضمان الهيمنة المنفردة. موازين القوى بدأت تبتعد عن قطب الأوحد نحو عوالم متعددة الأقطاب. من جهة أخرى، روسيا تغرق في مستنقع تاريخي من التفكك الداخلي والتنازع مع جيرانها، عاجزة عن إعادة بناء إمبراطوريتها دون دفع ثمن العزلة. في حين أن الصين تمضي بخطى ثابتة على طريق طويل، تكدس القوة بهدوء وصبر، وتنتظر اللحظة التي تتغير فيها قواعد اللعبة العالمية لصالحها.
في ظل هذا المشهد، تبقى أوروبا مجرد قوة ثقافية واقتصادية عاجزة عن الفعل السياسي الموحد. القارة العجوز لم تستطع أن تتحرر من ظل واشنطن، ولم تنجح في بناء مشروع سياسي قادر على فرض نفسه كبديل حقيقي. وفي قلب هذا العالم المتغير، ينهض العالم الإسلامي من تحت الركام، مثقلًا بجراحه، مدفوعًا بذكريات القهر والاستعمار، لكن حاملًا بداخله شرارة وعي متجددة، وإصرارًا على استعادة دوره الطبيعي.
الشعوب التي عاشت قرونًا طويلة تحت سطوة المستعمر، تعلمت أن الحرية لا تُوهب، وأن السيادة لا تُهدى، وأن الكرامة الوطنية لا تُباع ولا تُشترى. مع كل غروب لشمس الغطرسة، تشرق شمس الشعوب التي تتعلم كيف تنتزع حقها في الوجود، وكيف تبني حريتها بنفسها، دون حاجة إلى إملاءات خارجية أو وصاية قسرية.
معركة اليوم ليست فقط بين دول، بل بين فلسفتين للحياة: فلسفة تؤمن أن الإنسان خُلق حرًا، وفلسفة أخرى ترى العالم مزرعة لمن يملك القوة. بين هاتين الفلسفتين يتحدد مستقبلنا جميعًا، ويتقرر مصير هذا الكوكب الذي تعب من الحروب، ومن الأنظمة التي تحكمه بقبضة الغطرسة والخداع.
لم تعد لغة التهديد والابتزاز تصنع أممًا قوية. من ينتصر اليوم هو من ينتصر بشعبه لا على شعبه، ومن يحترم كرامة الآخرين لا من يدوسها بجنازير جيوشه وأساطيله. في زمن سقوط الأقنعة، تبقى الحقيقة واضحة: الشعوب الحرة، لا الطغاة، هي من تصنع التاريخ.