
مَن يتتبّع بدقة مسار الحياة السياسيّة في السنة الأخيرة في لبنان، وبالتحديد، قبيل وقف إطلاق النار مع «إسرائيل» وبعده، الذي لم تلتزم به أساساً، ويراقب مواقف وتصريحات العديد من السياسيين، والإعلاميين، وقادة أحزاب وناشطين، ومسؤولين، ومحللين، ومنظرين، حيال ما يجري في لبنان من تطورات خطيرة متسارعة، تهدّد وجوده، وسيادته، وأمنه القومي، ووحدة أرضه وشعبه، وتضع مصيره على طريق المجهول،
لا بدّ له من أن يتساءل: هل هؤلاء يعون ويدركون جيداً بموضوعيّة، ومسؤوليّة وطنيّة عالية، خطورة الأحداث، والتحديات، والضغوط، التي يشهدها ويواجهها لبنان الرسمي والشعبي، داخلياً، وإقليمياً، ودولياً، بعيداً عن الحسابات الضيقة الخاطئة، والمصالح الشخصية، والارتهان للقوى الخارجية،
والاحتماء بها، بحثاً عن موقع، أو منصب، أو زعامة، أو منفعة أو نفوذ؟! عندما يقع الوطن، أيّ وطن كان، تحت نير الاحتلال، تترتب على حكامه ومسؤوليه وجيشه وشعبه، مهمة تحريره بأيّ شكل من الأشكال. في هذه الحال يصبح الجميع معنيّاً بالمهمة العليا التي تقع على عاتقهم. إذ لا مجال عندئذ للاجتهاد والتنظير، والتردّد، والخنوع، والمزايدة.
إما أن يكونوا مع تحرير الوطن، وإما أن يكونوا جسراً وحصان طروادة للعدو المحتل. أثناء مواجهة الاحتلال، تسقط الخلافات، وتوضع النظريات، والخصومات والعداوات السياسية جانباً، لأنّ الجميع على مركب واحد، فإذا ما تعرّض لعطل خطير وطاقم المركب في جدال عقيم حول كيفية إنقاذه، سيؤدي حتماً إلى غرق المركب بكلّ ما فيه، ليجد مكانه في قاع البحر.
أن يكون جزءاً من أرض بلد ما، كلبنان، تحت الاحتلال، وتعلو في داخله أصوات نشاز مشبوهة من هنا وهناك، تغازل العدو، وتدفعه، وتحرّضه، وتشجّعه بكلّ وقاحة، وبأسلوب معيب قبيح، وبإيحاءات ملتوية بغية حضّه على الاستمرار في عدوانه، فهذا جنون مطبق، وغدر وخيانة ما بعدها خيانة. شعوب عديدة سبق لها أن تعرّضت للاحتلال خلال مسيرة تاريخها الطويل، فهل وجدنا شعباً يقف جزء منه مع المحتلّ لأراضيه؟!
عندما تتعرّض منطقة أو إقليم من وطن إلى عدوان خارجي، يهبّ الشعب بأجمعه، ويقف وقفة واحدة للدفاع عن وطنه بكلّ ما أوتيَ من قوة. عندما دخل النازيون الغزاة باريس، ووقعت تحت الاحتلال الألماني، هل وقف ابن مرسيليا، أو ليون أو بوردو، أو غيرها، موقف الشامت، المتفرّج، اللامبالي بها، او المتواطئ مع المحتلين، أم أنه هبّ هبّة واحدة بمقاومة عنيدة شرسة للدفاع عن بلده لدحر الاحتلال النازي؟!
هل انقسم الجزائريون، والفيتناميون، والروس، والهنود، والصينيون والأميركيون اللاتينيون، وغيرهم من الشعوب، عندما أرادوا تحرير بلدانهم من المحتلين والعزو الخارجي؟! أم أنهم وقفوا وقفة واحدة، وانطلقوا جميعاً لتحرير أرضهم وشعبهم؟! لماذا يشكّل اللبنانيّون ظاهرة استثنائية غريبة، فريدة، عجيبة من نوعها في علاقاتهم، وتعاطيهم مع الشقيق، والصديق، والعدو،
إذ أنهم لا يتفقون في ما بينهم على توصيف صديق، ويختلفون على تصنيف العدو، فيصبح الصديق عدواً، والعدو صديقاً! إذا كان اللبنانيّون لم يتفقوا بعد على كتابة تاريخ واحد عن بلدهم، يتوافق عليه الجميع، فكيف يمكن لهم حماية وصون سيادة الوطن، وتعزيز وحدة شعبه، في ظلّ أصوات ومواقف متشنّجة وتصريحات، وتعليقات، وتغريدات مستفزة تتعارض مع الدستور،
أبعد ما تكون عن الالتزام بالمسؤولية والوطنية، والوعي القومي، والشعور الأخوي، والحسّ الإنساني، في حين يصعب على المراقب، أو المتتبّع للشأن اللبناني، معرفة ما إذا كانت مواقف هؤلاء، وتغريداتهم وتصريحاتهم، صادرة عن لبنان أو عن تل أبيب! لصالح مَن، وفي خدمة مَن تصبّ حملات الكراهية، والشماتة، والحقد الأسود الدفين، والتحريض على شريحة واسعة من أبناء الوطن؟!
هل تحصّن هذه الحملات الهدّامة وتقوي وترسّخ في المقابل سائر المكونات الوطنية الأخرى، وتعزز من وجودها، وقوّتها، وحضورها، ووحدتها على الساحة اللبنانية، وتوفر لها الأمان والاستقرار مستقبلاً، أم أنّها تعرّضها لاحقاً لمشاكل جمة وتطورات وهزات عنيفة لا تصبّ في صالحها ولا في صالح لبنان، وهي بغنى عنها؟! ألا تحمل التطورات الخطيرة المتفجّرة، والتهديدات الإسرائيلية المتواصلة للبنان، في داخلها أحلاماً وأساطير توراتية توسعية على أرضه،
حيث لم يتوقف العدو «الإسرائيلي» عن التلويح بها من آن إلى آخر، والعمل على تنفيذها على الأرض خطوة بعد خطوة؟! هل يعلم الحمقى الذين يروّجون للعدو، ويبرّرون عدوانه، ويتمنّون من كلّ قلبهم استمراره في عملياته الحربية ضدّ لبنان، وما يبيّته ويحضّره له ولشعبه، وما يُظهره ويخفيه من أطماع تقوّض أسس وطنهم ووجوده؟! ما الذي يفعله هؤلاء لمنع العدو من تنفيذ خريطته التوراتيّة على أرض لبنان،
وما هي الوسيلة، وما هو العمل الذي يقومون به لإجهاض الحلم الإسرائيلي؟! هل بالدبلوماسية التي لا جدوى منها مع العدو، أم بتشريع أبواب الجنوب ليستبيح لبنان أرضاً، وعمراناً، وبشراً؟! إلى متى هذا العداء المستحكم، وهذه الكراهية المتجذرة في نفوس العديد من اللبنانيين المقامرين، والمغامرين بلبنان من مختلف الطوائف دون استثناء، المشبوهة مواقفهم، المرتمين والمرتهنين دون تحفظ للخارج، والداعمين للعدو سراً وعلانيّة؟! هل شمت الفرنسي بمواطنه، وتآمر عليه، واستنجد بالألمان عندما سقطت فرنسا في يد النازي؟!
وهل استقوى الجزائري وتآمر على أبناء بلده، واستعان بفرنسا أثناء مقاومته للاحتلال الفرنسيّ لبلده؟! بمرارة، وبصراحة تامة دون تحفظ، نتساءل: لماذا يتمنّى البعض في لبنان انتصار العدو على إبن وطنه؟! لماذا يغضّ النظر عن عمد واضح لا لبس فيه، ويلتزم السكوت إزاء ما يقوم به الجيش الإسرائيلي من تدمير، وقتل، وتهجير، ويصمت كصمت «أبو الهول»، دون أن يرفّ له جفن، أو يبدي القليل القليل من العاطفة الأخوية، والحسّ الإنساني، والشعور الوطني، أو القليل القليل من»المحبة» تجاه من يتقاسم معهم الوطن والأرض، والأمل، والمستقبل؟!
بأي منطق، وضمير، وشرف، وأخلاق، يشجع مسؤول، أو سياسي، أو ناشط، أو إعلامي، أو كاتب، أو «منظر» أو مغرّد على وسائل التواصل في لبنان، العدو بصورة مباشرة وغير مباشرة، وبخبث شديد، بتصريحاته وكتاباته، وتغريداته على الاستمرار بعدوانه، وتكثيف اعتداءاته على اللبنانيين. متمنياً من أعماق قلبه أن يسجل العدو انتصاراً ساحقاً على مَن يقاوم عدوانه؟!
لماذا يتهافت هؤلاء سريعاً على نشر أعداد الشهداء والجرحى لتسجيل موقف شامت لا متضامن، دون أن تصدر عنهم إدانة للعدوان الإسرائيلي، أو تنديد بالمجازر التي يرتكبها يومياً؟! هل لأنه يريد أن يبرّر ما يقوم به العدو يومياً من اعتداءات على لبنان؟! لماذا يظرّف هؤلاء القاتل، ويشمتون بالمقتول، لتظهر فرحتهم الواسعة على صفحات وجوههم الصفر، وفي أدبيات ومفردات تعليقاتهم، وتحليلاتهم،
في كلّ مرة يرتكب فيها العدو جرائم قتل، ودمار، وتهجير، وخراب بحق أبناء المدن والقرى؟! نشوة حقد، وعمالة، وخيانة، وعار، يلمسها المراقب بكلّ وضوح، وقد طبعت على جبين من آثروا الولاء الشديد والانبطاح للإمبراطورية المستبدة، وللمحتلّ الإسرائيلي. نشوة خالية من الوطنية والضمير الإنساني، تأتي على حساب الوطن، وشعبه، وقضيته، ووجوده. هؤلاء لا تعنيهم سيادة وطن، وإنْ تشدّقوا بها، ولا تعنيهم كرامة شعب، ولا تحرير أرض، بقدر ما تعنيهم مصالحهم الشخصيّة، ونهم شهيّتهم للسلطة، والجاه، والمال، والنفوذ. لهذا الصنف من «البشر»
نقول: لا تراهنوا على الخارج ونفوذه. وقوته، ومصالحه، واحتضانه المؤقت لكم. علاقتكم به كعلاقة العبد مع سيده، فعند أول مفترق طريق سيلفظكم العدو، ويرميكم، ويدوسكم بأقدامه، مثل ما فعل مع غيركم عندما انتهى من مهمته معه. وحدهم الأحرار الشرفاء، ملح الوطن، يبقون ملتصقين بالأرض، ويحافظون عليها بالعرق والدم والدموع، ما دام فيهم عرق ينبض، وإنْ تكالَب عليهم ذئاب العالم من كلّ مكان!