مجتمع مدني

مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية يصدر دراسة مقارنة تكشف الأبعاد الجديدة للحركات الإسلامية العربية ونموذج أردوغان.

“بين الشكل والمضمون.. مقارنة استراتيجية بين نظرية الحركات الإسلامية العربية ونموذج أردوغان في التغيير”

(ورقة استراتيجية ضمن سلسلة أوراق المستقبل)

صادرة عن مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية – إبريل 2025

مقدمة

على مدى العقود الماضية، حاولت الحركات الإسلامية العربية بناء نظرياتها في التغيير، مستلهمة في ذلك طموحات الأمة وتاريخها ورصيدها الدعوي. لكنها في كثير من الأحيان وقعت في أسر الأشكال والمظاهر، ومالت إلى الخطاب الرمزي أو الاحتجاجي دون أن تُمسك بجوهر إدارة الصراع أو هندسة التغيير العميق.

في المقابل، قدّم النموذج التركي بزعامة رجب طيب أردوغان تجربة مختلفة، اعتمدت على جوهر التغيير لا شكله، وعلى مضمون الدولة لا شعارات الحركة، وعلى بناء السلطة ومؤسسات النفوذ قبل الانخراط في معارك الشعار أو الهوية، ما منح التجربة قدرة على التماسك والاستمرار لعقدين من الزمن في قلب نظام دولي معادٍ.

تسعى هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية للمقارنة بين النموذجين، واستخلاص الدروس الاستراتيجية التي يمكن أن تؤسس لنظرية إسلامية عربية أكثر نضجًا وفاعلية.

أولًا: الحركات الإسلامية العربية ونظرية “التعبير الرمزي”

في أغلب تجارب الحركات الإسلامية العربية، بدا أن النظريات المعتمدة في التغيير ارتكزت على:

• الخطاب أكثر من السياسات.

• الشكل الإسلامي أكثر من المضمون المؤسسي.

• الحشد الجماهيري أكثر من بناء التحالفات الداخلية والخارجية.

• الدعوة إلى الشريعة قبل امتلاك أدوات الدولة التي تطبقها.

• الدخول في صراعات هوية قبل ترسيخ أقدامها في مفاصل الدولة والمجتمع.

وهكذا، غالبًا ما انتصرت الرمزية على الاستراتيجية، والشعار على البرنامج، مما جعل الإنجازات محدودة، ومهد الطريق للثورات المضادة أو الانقلابات أو إستمرار الحصار.

ثانيًا: تجربة أردوغان – التدرج الاستراتيجي نحو النفوذ

على النقيض من ذلك، قدم حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة أردوغان نموذجًا مختلفًا، ركّز منذ البداية على مضمون الدولة ومفاتيح السلطة من خلال:

• التدرج الهادئ في التمكين من داخل الدولة لا من خارجها.

• السيطرة على البيروقراطية، والقضاء، والإعلام، والتعليم، قبل رفع شعار الشريعة أو الأسلمة.

• التحالف المرحلي مع القوى الليبرالية والقومية لتفكيك “الدولة العميقة”.

• بناء خطاب وطني جامع يحمي المشروع من التصادم المبكر مع الداخل والخارج.

• التعامل الذكي مع العلاقات الدولية، وتوظيف التوازنات الإقليمية والدولية لصالح المشروع.

لقد نجح أردوغان – برغم تراجع التجربة لاحقًا بسبب تحديات مستجدة – في تأجيل معاركه القيمية، لصالح كسب النفوذ المؤسسي، ما منح تجربته عُمقًا ومرونة جعلتها قادرة على البقاء والصعود حتى في أشد اللحظات.

ثالثًا: الفرق الجوهري – مضمون التغيير أم شكله؟

المقارنة بين النموذجين تُبرز الفروقات التالية:

• في الرؤية: الحركات الإسلامية العربية أرادت إقامة الدولة الإسلامية من خلال “تغيير القمة”، بينما أردوغان بدأ بتفكيك الدولة العميقة من الداخل.

• في الأسلوب: الحركات العربية اتجهت إلى الصدام المبكر، بينما انتهج أردوغان التدرج والتراكم المرحلي.

• في الخطاب: الخطاب العربي كان هوياتيًا صداميًا في الغالب، بينما الخطاب التركي اعتمد على الإصلاح، والكفاءة، والتنمية، وأجل القضايا القيمية.

• في التحالفات: الحركات الإسلامية العربية غالبًا ما عزلت نفسها عن القوى السياسية الأخرى، أما أردوغان فقد عقد تحالفات مرنة، وفكك خصومه من الداخل.

رابعًا: المخاطر التي دفعت ثمنها الحركات الإسلامية

إن الانشغال بالأشكال قبل المضامين، وبالهوية قبل الأدوات، كلف الحركات الإسلامية في مصر وتونس والجزائر وسوريا أثمانًا باهظة:

• فقدان الدعم الشعبي نتيجة غياب الإنجازات الملموسة.

• سهولة الانقضاض عليها بسبب ضعف التمكين المؤسسي.

• توريطها في معارك أيديولوجية استنزفتها وأضعفت رصيدها.

• الفشل في تحييد المؤسسات العميقة، والاعتماد المفرط على “الشرعية الانتخابية” دون تحصينها سياسيًا وأمنيًا.

خامسًا: دروس استراتيجية للمستقبل:

1. لابد من تقديم جوهر المشروع على مظهره، فالمجتمعات تسأل عن الكفاءة لا الشعار.

2. الانتقال من منطق التعبئة إلى منطق الإدارة، فالشعوب لا تنتخب من يصيح أكثر، بل من يُنجز أكثر.

3. بناء النفوذ من القاعدة إلى القمة، عبر الإعلام، والتعليم، والمجتمع المدني، لا فقط صناديق الاقتراع.

4. تأجيل الصدامات الهووية، وبناء توافق سياسي واجتماعي واسع النطاق، يُحصّن المشروع بدل أن يُضعفه.

5. إعادة النظر في مفهوم الدولة، بوصفها ميدانًا للتغيير لا مجرد غنيمة انتخابية.

خاتمة

لقد آن الأوان للحركات الإسلامية العربية أن تنتقل من التعلق بالرموز إلى بناء الاستراتيجيات، ومن الصراع على الشعارات إلى هندسة التغيير الواقعي.

النموذج التركي، رغم اختلاف السياقات، يُبرز بوضوح أن الرهان على المضمون هو الذي يصنع التغيير الحقيقي، وأن الخطوة الأولى في استئناف الحضارة ليست رفع الشعار، بل بناء القاعدة الصلبة التي تحمي المشروع وتمنحه الاستمرار.

صادر عن مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية

إسطنبول – إبريل 2025

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى