صراخ التراث السيناوي المنسي: كنوز بدوية تلفظ أنفاسها الأخيرة وسط الإهمال والاندثار

أكدت شواهد التاريخ أن سيناء لم تكن يومًا مجرد قطعة أرض، بل كانت دائمًا قلبًا نابضًا بالإرث، حافظةً لذاكرة أمة.
على أرضها وُلدت الحرف اليدوية، فكانت نسيجًا من حضارة بدوية أصيلة وفن لا يكلّ عن الإبداع. وبينما تحتفل مصر بعيد تحرير سيناء، ينكشف الوجه الآخر: تراث يحتضر.
أنامل منسية على حافة الاختفاء: ملامح الحرف اليدوية في خطر
أوضح الخبير التراثي ممدوح شفيق أن الحرف اليدوية في سيناء تمثل واحدة من أعمدة الهوية الثقافية البدوية، لافتًا إلى أن عدد الحرفيين المتفرغين في سيناء تراجع بنسبة 62% خلال السنوات الخمس الأخيرة، ليصل إلى أقل من 1,500 حرفي فقط في شمال وجنوب سيناء مجتمعَين.
وذكر أن معظمهم من كبار السن، ما ينذر بانقراض هذه الحرف إذا لم تُنقل للأجيال الجديدة. وأضاف: “بعض الحرف كالنسيج اليدوي والجلود مهددة بالاختفاء خلال 10 سنوات ما لم تُدعم بشكل مؤسسي”.
النسيج السيناوي .. تراث يتآكل في صمت
أشارت الحرفية فاطمة سليمان، 63 عامًا، من سكان نويبع، أن مهنة النسيج اليدوي كانت تُمارس من قِبل حوالي 320 امرأة في منطقتها فقط، أما اليوم فعدد من تبقى منهن لا يتجاوز 27 سيدة.
وتقول: “كنا نُطرّز ملابسنا وسجادنا منذ الصغر. اليوم نرى منتجات مستوردة تُباع على أنها تراثنا. نُحارب طوفان الإهمال والتجاهل”.
وأكد الباحث في التراث الشعبي محمود رزق أن صناعة النسيج السيناوي كانت تدر دخلًا شهريًا يصل إلى 3,000 جنيه للحرفية الواحدة قبل 2010، لكنها اليوم بالكاد تحقق 600 جنيه، بسبب ضعف التسويق وغياب الدعم المؤسسي.
الجلود البدوية .. رائحة الزمن الجميل تختنق
نوه الحرفي عبدالجواد صابر، من مدينة رفح، أن مهنة صناعة الجلود كانت تعتبر مهنة العائلة، يمارسها الجد والأب والابن، وكان يبيع في السوق الواحدة ما يزيد عن 100 قطعة شهريًا. لكنه اليوم لا يصنع أكثر من 15 قطعة.
وأضاف: “جلودنا طبيعية 100% ولا تُضاهى عالميًا، لكننا نُقابل بالتهميش، والورش تغلق أبوابها واحدة تلو الأخرى”.
وذكرت الخبيرة الاقتصادية دينا المغربي أن الصناعات الجلدية في سيناء تُمثل فرصة اقتصادية ضائعة، إذ يمكن أن تُدر عائدًا سنويًا يقدر بـ250 مليون جنيه في حال تنظيم قطاعها وفتح أسواق خارجية لها.
الفخار والخزف .. أيادٍ تشكّل الطين وتبكي التجاهل
أوضح الفنان التشكيلي بدر الدين شاهين أن الطين السيناوي يتميز بخصائص فريدة، تجعله من أفضل أنواع الطين للخزف والفخار، لكنه أشار إلى أن 70% من الأفران التقليدية أُغلقت لعدم قدرتها على مواكبة تكاليف الإنتاج وغياب الدعم.
وأضاف: “هناك خزفيات من سانت كاترين تُباع في ألمانيا وفرنسا بأسعار خيالية، بينما حرفيوها في مصر يعيشون بالكاد”.
وأكدت عايدة حسن، فخارية من العريش، أن أكثر ما يؤلمها هو رؤية الصناعات الفخارية تُباع في مهرجانات دولية بأسماء دول أخرى: “كأننا فقدنا ملكيتنا لتراثنا”.
المرأة البدوية: حارسة الإرث ونبض الحرفة
أشارت سعاد عبدالرؤوف، سيدة بدوية من طابا، أن النساء كنّ يحملن مشاعل الفن في التطريز والنسيج، ولم يكن الهدف الربح فقط، بل الحفاظ على ما يميزهن.
وتضيف: “غرزة الكفافة وغرزة الصليب ليست فقط زينة، بل لغة تُحاكي الطبيعة وتاريخنا”. وأكدت أن 85% من الفتيات الصغيرات في منطقتها لا يعرفن شيئًا عن هذه الغرز اليوم.
ونوهت الباحثة نجلاء فوزي أن غياب التعليم الحرفي في المدارس والمعاهد بالمناطق البدوية هو السبب الأول لغياب الأجيال الجديدة عن ممارسة الحرف اليدوية. واقترحت تدشين مبادرات توعوية ودورات مهنية ممولة من الدولة.
المجوهرات البدوية: فضة تنطق بالهوية
أوضح الحرفي عطية فهيم، صانع مجوهرات في نويبع، أن كل قطعة من المجوهرات البدوية تحكي قصة، من خلال الرموز مثل عين الشمس أو النخلة.
لكنه أشار إلى أن سوق المجوهرات يعاني من تقلبات سعر الفضة، وغياب الورش الحديثة، قائلاً: “ما كان يُصنع بـ50 قطعة أسبوعيًا أصبح الآن يُنتج فيه بالكاد 5 قطع”.
وأكدت الخبيرة في الثقافة الشعبية شيماء جاد أن تراث المجوهرات البدوية يمكن إدخاله ضمن معارض الموضة العالمية، حيث يوجد طلب هائل عليه من قبل المهتمين بالثقافات الفلكلورية.
الزينة البدوية .. من الزي إلى المتاحف
أشارت نوال حماد، سيدة من الشيخ زويد، أن الملابس النسائية المطرزة تمثل مرآة لروح سيناء، وأن كل شكل مطرز له دلالة: فالمثلث قد يرمز للصحراء، والمربع للمأوى، والغرزة لحدث عائلي أو قبلي.
وقالت: “ملابسنا تُباع الآن كتذكارات، لكنها كانت تعبيرًا عن ذاتنا”. وأكدت أن تلك الزينة اليوم تُحاصرها منتجات مُقلدة تُستورد من دول أخرى.
تراث مهدد بالضياع وسط التجاهل واللامبالاة
أكد عبد الله منصور، باحث في التراث الشعبي، أن الحرف اليدوية السيناوية تُعد من أقدم الموروثات الحضارية في مصر، وهي مرآة تعكس أصالة وثقافة البدو.
وقال: “تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 70% من الحرفيين في شمال سيناء قد توقفوا عن مزاولة مهنتهم خلال السنوات الخمس الأخيرة بسبب ضعف التسويق وقلة الدعم الحكومي، مما تسبب في تهديد مباشر لهذا الموروث العظيم”.
اقتصاد بدوي يئن تحت وطأة التهميش
أشار كريم العزازي، خبير تنمية محلية، إلى أن الحرف اليدوية كانت تمثل دخلاً ثابتًا لأكثر من 4300 أسرة بدوية في جنوب وشمال سيناء، لكن بعد الأحداث الأمنية وتقلص السياحة، انخفض الطلب بنسبة تتجاوز 65%، ما أدى إلى اختفاء مهن كصناعة السروج والجلود بشكل شبه كامل في رفح والشيخ زويد.
صناعة الجلود .. من مجد إلى مهجورة
أوضحت عفاف حسين، حرفية من طور سيناء، أن صناعة الجلود كانت تشكل العمود الفقري للبيئة البدوية. وأضافت: “كنا نصدر الحقائب والأحذية اليدوية لأسواق القاهرة والإسكندرية، أما الآن فلا يوجد سوى ورشتين تعملان بشكل جزئي في المنطقة بأكملها”.
النسيج اليدوي .. لون الصحراء الذي بدأ يتلاشى
نوهت سناء محمود، إحدى الحرفيات في نويبع، إلى أن النسيج اليدوي كان أكثر الحرف جذباً للسياح. وتابعت: “كنت أبيع شهرياً ما لا يقل عن 120 قطعة من الأغطية والسجاد، أما اليوم فأحياناً تمر الشهور دون بيع قطعة واحدة. الدعم غائب، والدولة لا توفر لنا المعارض ولا أدوات العمل”.
انهيار صناعة الفخار والخزف أمام الزحف الحديث
أشار جابر حسن، فنان خزف من سانت كاترين، إلى أن الطين لم يعد يُشكَّل بنفس الروح القديمة. وأكد: “تراجعت المبيعات بنسبة 80%، ولم يعد الجيل الجديد يعبأ بتعلمها، رغم أنها مهنة توارثناها منذ أكثر من 150 عاماً”.
التطريز السيناوي .. زخارف على حافة الهاوية
أكدت فاطمة عوض، من العريش، أن المرأة السيناوية كانت تفخر بثوبها المطرز الذي تحيكه بيديها. وقالت: “اليوم نستورد القماش الجاهز من الصين، وتراجعت صناعة الغرزة السيناوية بنسبة 75%. لا أحد يهتم بحماية هذا الفن الفريد”.
السجاد البدوي .. ذاكرة القبائل المهجورة
أشارت أمل عبد المقصود، حرفية من طابا، إلى أن السجاد البدوي كان يمثل هوية القبيلة. وأضافت: “كل لون وزخرفة كانت تحكي قصة، لكن في ظل قلة الطلب والأسعار الزهيدة، بات من المستحيل الاستمرار. توقفت أكثر من 200 سيدة عن العمل في منطقتنا وحدها”.
المجوهرات البدوية .. نقوش منسية على الفضة
أوضح سليم عادل، صائغ في نويبع، أن الحُلي البدوية كانت تُطلب في المعارض الدولية. وتابع: “الآن توقفت صادراتنا كلياً. تراجعت أرباح الورشة من 24 ألف جنيه شهرياً إلى أقل من 3 آلاف، والمهنة باتت على وشك الانقراض”.
فنون الزينة .. غرزة الذاكرة تواجه الغرق
أكدت نجلاء عبد الباسط، مصممة أزياء تراثية، أن الغرزة السيناوية تعاني من تهميش رسمي كبير. وقالت: “كل قطعة أعمل عليها تتطلب من 20 إلى 30 ساعة عمل، ومع ذلك لا أجد مشتريًا. الوزارة لا توفر لنا الدعم رغم تقديمنا عشرات المبادرات للحفاظ على هذه الحرفة”.
الهوية في خطر
أوضح محمود حسن، من أبناء العريش، أن فقدان الحرف اليدوية هو فقدان لهويتنا. وأضاف: “أنا شخصياً أملك قطعة سجاد نسجتها أمي منذ 40 عاماً، واليوم لا أجد من يستطيع نسج مثلها. ما نراه اليوم هو تآكل تدريجي لتراث لا يُقدّر بثمن”.
منظمات المجتمع المدني.. محاولات يائسة
أكدت منى إسماعيل، ناشطة مجتمعية ومهتمة بالتراث السيناوي، أن محاولات إنقاذ الحرف لم تُقابل بأي تجاوب رسمي.
وقالت: “نظمنا 17 معرضاً خلال عامين، لكن دون دعم لوجستي أو تمويلي. الحرفيون يعانون، وإذا لم يتم التحرك الآن فلن يتبقى شيء خلال خمس سنوات”.
شباب سيناء .. بين البطالة وحنين الماضي
أوضح أحمد سيف، شاب بدوي من الشيخ زويد، أن الشباب يعزفون عن تعلم هذه الحرف. وأضاف: “نحن نحتاج إلى فرص عمل، وليس لدينا ترف التمسك بالماضي دون مقابل. إذا وُجدت برامج تدريبية وتوظيفية حقيقية، فسيتغير كل شيء”.
صراخ الحرف: هل يسمعنا أحد؟
أوضح الناشط المجتمعي يوسف الجندي أن هناك غيابًا شبه تام للسياسات الداعمة للحرفيين في سيناء، رغم أن هذه الحرف يمكن أن تُعيد تشكيل اقتصاد محلي بالكامل، وتُقلل من نسبة البطالة التي تخطت 18% في بعض المناطق هناك.
وأشار الصحفي سامي الديب إلى أن هناك تقارير رُفعت للجهات المختصة منذ سنوات، مطالبة بإنشاء مجمعات إنتاج حرفي في نويبع وطابا والعريش، لكنها بقيت حبيسة الأدراج. وتساءل: “لماذا ندفن تراثنا بيدنا؟”
المستقبل: هل تكتب التكنولوجيا شهادة وفاة للتراث؟
نوه الدكتور علاء بيومي، أستاذ الفلكلور بإحدي الجامعات، أن التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فبينما تتيح التسويق الإلكتروني للحرف اليدوية، إلا أن المنتجات الحديثة تُغرق السوق وتدفع الشباب للعزوف عن تعلم الحرف الأصلية. وأكد ضرورة إنشاء منصة وطنية لتوثيق وبيع المنتجات السيناوية.
غياب الخطط الوطنية
أشار الدكتور مجدي عبد العزيز، أستاذ الاقتصاد الثقافي، إلى أن الدولة لا تضع الحرف التراثية ضمن أولوياتها التنموية.
وذكر: “لو تم إدراجها ضمن الاقتصاد غير الرسمي في الاستراتيجية العامة، لساهمت هذه الحرف في الناتج المحلي بنحو 1.2 مليار جنيه سنوياً على الأقل”.
وأكدت رباب منصور، ناشطة على منصات التواصل، أن الكثير من الحرفيات في سيناء لا يملكن حتى هواتف ذكية، ما يُصعّب عليهن الوصول للأسواق الرقمية، ويستوجب تدخل الجمعيات الأهلية لتدريبهن ودعمهن.
الإعلام.. المتفرج الصامت
نوهت الكاتبة ريم حسين إلى غياب التغطية الإعلامية لقضية الحرف اليدوية. وقالت: “لا نجد من يسلط الضوء على معاناة الحرفيين في سيناء. الإعلام مشغول بالقضايا الاستهلاكية، بينما يموت تراث بأكمله في صمت”.
اختناق الحرف اليدوية في سيناء ليس فقط تهديدًا لمصدر دخل آلاف الأسر، بل هو نزيف مستمر لهوية ثقافية عريقة.
في ظل الغياب الرسمي واللامبالاة المجتمعية، يبدو أن هذه الحرف ستختفي واحدة تلو الأخرى ما لم يتم إنقاذها بخطة واضحة وشاملة.
وأبرز ما تحتاجه الحرف السيناوية ليس الرثاء بل الفعل .. ففي ظل غياب التوثيق، وانعدام الدعم، وتقلص الأيدي العاملة، تقف سيناء اليوم شاهدة على دفن كنوزها التراثية. إنقاذ هذا الموروث ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية تحمي هوية وطن من الاندثار.
وتبقى الحرف اليدوية في سيناء علامة فارقة في التاريخ المصري، وأيقونة من أيقونات التراث الإنساني. ولكن دون تدخل عاجل، سيغدو هذا التراث ذكرى باهتة في كتب التاريخ، ولن تُسمع مجددًا أصوات النول أو أفران الطين.