
رثاء في رحیل البابا فرنسیس .. أنا مسلم وباحث في علاقة الأديان بالعلم، ومؤمن بأهمية استخدام العقل في زمن تتعالى فيه أصوات التّعصب والانغلاق.
طَوال التاريخ، شكّلت الأديان الكبرى مصدرًا للمعنى والعدالة والرحمة في حياة الإنسان. وقد وُلدت كلّها من عمق الوعي البشري بالحاجة إلى ما هو أسمى، وإلى نظام قيمي يضبط العلاقة بين الإنسان وربّه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان.
لكن المفارقة أن هذه الرسالات التي جاءت لتهدي، تحوّلت أحيانًا
بسبب سوء الفهم أو استغلال السلطة – إلى حدود فاصلة، بل إلى جبهات متقابلة.
هنا تتجلّى أهمية الحوار الإنساني بين الأديان، لا كمجرد لقاء نخبوي بين رجال الدين، بل كمسار حضاري شامل يُعيد ربط الأديان بجوهرها الإنساني الأول.
فحين يتحاور الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية وغيرها، فإنها لا تتنازل عن عقائدها، بل تتعرّف على أبعادها المشتركة. كلّها تدعو إلى الرحمة، كلّها تحث على المحبة، وعلى احترام الإنسان باعتباره مخلوقًا مُمجَّدًا ذا كرامة.
في عالمنا اليوم، لم تعد المعركة بين الأديان، بل بين التسامح والتّعصب، بين الاعتراف بالآخر ونفيه، بين المحبة والخوف.
بوفاة البابا فرنسيس، رحل صوتٌ مؤثرٌ للحكمة، ذلك الإنسان الذي لم يكن مجرد رأسٍ للكنيسة الكاثوليكية، بل كان ضميرًا حيًّا للعالم، وعقلًا منفتحًا على الإنسانية في أوسع معانيها.
كان البابا فرنسيس من القلائل الذين امتلكوا شجاعة الاعتذار عن أخطاء الكنيسة في الماضي، وتواضع الكبار في إعادة قراءة التاريخ بروح المحبة لا الادّعاء، والإصلاح لا الإدانة.
لم يكن إيمانه تعصّبًا، بل كان جسرًا. ولم تكن عقيدته سدًّا، بل نهرًا يمتدّ للآخر، عن نقطة التقاء في عالم يزداد انقسامًا.
وقد بلغت هذه الروح أسمى تجلياتها في الوثيقة التاريخية التي وقّعها مع شيخ الأزهر، رمز الإسلام المعتدل، لتكون وثيقة “الأخوة الإنسانية”، دعوةً صريحة إلى السلام، وإلى الاعتراف المتبادل، وإلى بناء عالم يتّسع لكل من يؤمن بالكرامة والعدل والرحمة.
وثيقة “الأخوة الإنسانية” أعتبرها بوصلة أخلاقية لعصر مرتبك. فالدين الذي لا يحاور، يتحوّل إلى عقيدة منغلقة، أما الدين الذي يحاور، فيستعيد وجهه النوراني، المتصالح مع الإنسان والزمن.
ولعلّ البابا فرنسيس كان من أكثر القادة الروحيين وعيًا بأنّ الحوار بين الأديان هو في الحقيقة حوار داخل الإنسان نفسه، حوار بين الجوانب المتناقضة فينا:
الخوف من الآخر، والرغبة في اللقاء معه.
الاستعلاء عليه، والتواضع تجاهه.
الكراهية، والرحمة.
إنّ الحوار الديني ليس ترفًا، بل ضرورة أخلاقية وفكرية للبقاء، ولإعادة بناء عالم يتّسع للجميع، دون قهر أو استعلاء.
لقد رحل البابا فرنسيس عن دنيانا.. ورحيله ليس خسارة للكنيسة فقط، بل خسارة للإنسانية كلّها.
خسرناه كصوتٍ للضمير في وجه الظلم، كقائدٍ روحي يؤمن بالعلم، بالحوار، بالمساواة.
خسرناه كإنسان، قبل أن يكون زعيمًا دينيًا.. لكن الأمل أن ما زرعه من بذور التفاهم والمحبة سيبقى حيًّا، في القلوب التي ألهمها، وفي الضمائر التي أيقظها، في الوثائق التي وقّعها.
وداعًا أيها الرجل العظيم، كنت أكثر من قائد.. كنت ضمير العالم المُرهف في زمن قاسٍ ومرتبك.