تونس: قيس سعيد يلاحق شخصيات مستقلة في حملة ضد الديمقراطية

تحت ضغوط اقتصادية متزايدة وانتقادات شعبية واسعة، يواجه الرئيس التونسي قيس سعيد موجة من الانتقادات بعد استهدافه لعشرات الشخصيات المستقلة، بما في ذلك معارضين ديمقراطيين وصحفيين ورجال أعمال، في إطار ما يزعم أنه مؤامرة ضد الدولة.
تتزايد المخاوف من تأثير هذه الحملة على الحريات العامة في تونس، حيث يواجه العديد من المعارضين التجريم والتهم التي يصفها كثيرون بأنها ذات دوافع سياسية. يتزايد القلق من عودة أساليب استبدادية مشابهة لتلك التي كانت سائدة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، حيث تناقض تصريحات سعيد حول الحفاظ على الديمقراطية مع ممارساته الفعلية.
وصرح سعيد مؤخراً أمام كوادر وزارة الداخلية بأن “ذنب المتهمين قد أثبتته الأحداث، حتى قبل أن تثبته المحاكم”، وهو ما يثير تساؤلات حول استقلالية القضاء وحق هؤلاء الأشخاص في محاكمة عادلة. تتعاقب الأحداث بسرعة، حيث يبدو أن النظام يسعى لتبرير سياسته القمعية بتناول ما يسميها “محاولات اغتيال” لشخصيات بارزة في المجتمع.
مع استمرار الأزمة الاقتصادية وتزايد السخط الشعبي، تتحول الأنظار نحو الدولة لاستجواب خيارات سعيد، الذي يجد نفسه يوظف خطابات شعبوية، بما في ذلك تحريكه لمشاعر العداء ضد المهاجرين، كأداة لتوجيه الأنظار بعيدًا عن الواقع المرير الذي يعيشه المواطنون.
وقال أحد المعارضين الذي تم استهدافه في هذه الحملة: “إن هذه الاستهدافات ليست مجرد هجمات على شخصيات معينة، بل هي هجمات على الديمقراطية نفسها في تونس”.
إلى أين ستصل هذه الدوامة القمعية المجنونة التي يقودها رئيس الدولة التونسية، والذي استحوذ على معظم السلطات منذ انقلابه في 25 يوليو 2021؟ لا شك أن هجماته الأخيرة والمخزية ضد المهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، الذين جعلهم سبب كل المآسي، قد جلبت له قدراً من الشعبية المؤقتة لدى بعض شرائح الشعب التونسي. وقد حظي بذلك بدعم الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرفة، السعيدة برؤيته يحد من تدفق المهاجرين. أما على المستوى الدولي، فقد أصبح قيس سعيد معزولاً بشكل متزايد، بعد أن تخلت عنه الولايات المتحدة، ولا يلقى سوى دعم خجول من النظامين السوري والإيراني، إلى جانب التزام أجهزة الاستخبارات الجزائرية التي أصبحت حاضرة بقوة في تونس.
زين العابدين بن علي، الذي حكم بين 1987 و2011، لم يمتلك الذكاء السياسي لفتح نظامه أمام الديمقراطية، لكنه على الأقل كانت له مساهمات في تحديث بلاده.
إيمانويل ماكرون، متأخر كعادته
في هذا السياق المتردي، يسود صمت مطبق من باريس، في وقت تُلاحق فيه بعض الشخصيات الفرنسية – مثل برنار هنري ليفي – من قبل قضاء تابع بالكامل. كل ذلك بحجة الحفاظ على استقرار إقليمي مزعوم، وخوفاً من عودة الإسلاميين التابعين لحركة النهضة، الذين كانوا في السلطة في 2012 و2013. هؤلاء الإسلاميون مارسوا السلطة حينها بإيجابياتها، بفضل قدرتهم على الاندماج السياسي، ولكن أيضاً بسلبها، المتمثل في حصيلة اقتصادية كارثية.
والأدهى من ذلك، أن إيمانويل ماكرون أعلن في نوفمبر 2023 دعمه لـ«صديقه قيس سعيد»، متمنياً أن «يُستكمل التغيير السياسي الجاري حتى نهايته». وهذه طريقة في التواطؤ مع رئيس تونسي يعمل على إلغاء كل أشكال التوازن الديمقراطي، وتكريس خيبة الأمل العميقة من الربيع التونسي لعام 2011، الذي شهد فرار الرئيس بن علي إلى السعودية، البلد المعروف باستضافته المريحة للديكتاتوريين المنهكين.
تكرر الدبلوماسية الفرنسية تحت قيادة ماكرون أخطاء شيراك وساركوزي في دعم بن علي، ولكن بشكل أسوأ. إذ أن التوجه الخلاصي الذي يتبناه نظام قيس سعيد الآن أكثر تدميراً من السلطوية التقليدية التي مارسها بن علي. ومع هذا النهج، تُمهّد فرنسا لماكرون لانقلاب في الرأي العام التونسي، الذي رغم محبته للثقافة الفرنسية، لا يزال متشبثاً بالمكاسب الديمقراطية التي تحققت خلال العقد الأخير.
الانحدار الكبير
من بن علي إلى قيس سعيد، انحدر المستوى كثيراً. الأول كان ديكتاتوراً حقيقياً، أما الثاني فنسخة باهتة، يفتقر للدعامة السياسية أو الشعبية داخل الدولة. صحيح أن زين العابدين بن علي، بصفته عسكرياً، لم يكن يمتلك رؤية ديمقراطية، لكنه سعى لتحديث البلاد، وكان أول رئيس أفريقي يوقع اتفاقية تجارة حرة مع أوروبا. حينها كانت نسب النمو تصل إلى 6%، وكان الخبز والدواء متوفرين في الأسواق التونسية.
أما قيس سعيد، الذي يواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة، فيبدو تائهاً، عاجزاً حتى عن إتمام اتفاق مع صندوق النقد الدولي. لا يعرف سوى التنديد بالفساد، والمهاجرين، والبرلمان، دون أن يقدم مشروعاً واضحاً أو إصلاحاً فعلياً.
فاشية كرتونية
يختلف الديكتاتوران في قدرتهما على التفاوض. فالأول، رغم سجنه وتعذيبه لآلاف الإسلاميين، كان قادراً على التفاوض مع قوى اجتماعية مختلفة، من شركاء غربيين، إلى معارضين انضموا للنظام، أو حتى الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي ظل قوة موازنة لا يمكن تجاوزها منذ الاستقلال.
كرئيس أمني أول للبلاد، كان الجنرال بن علي يسيطر على الجهاز الأمني، وعاقب انحرافاته أحياناً، بطرد أكثر من 2000 شرطي من وزارة الداخلية على مدى 17 عاماً. أما قيس سعيد، فهو بمفرده في مواجهة الشعب، يُخاطب غرائزه، ويتعامل مع كل انتقاد كأنه مؤامرة.
ورغم فساد عائلة بن علي وانحرافات الشرطة، التي نخرت البلاد من 1987 إلى 2011، كان النظام يعتمد على جهاز تقني فعال. هذا لم يعد موجوداً مع قيس سعيد، الذي ينزلق شيئاً فشيئاً نحو فاشية كاريكاتورية، يبدو أستاذ القانون الدستوري السابق غير قادر على تنظيمها أو حتى الاعتراف بها، لأن سلطته باتت منفصلة تماماً عن الواقع.