
تمرّ ذكرى استشهاد الشيخ أحمد ياسين– مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وقائدها الروحي– في زمن يتصدّر فيه اسم فلسطين ومقاومتها نشرات الأخبار، ويهتز فيه كيان الاحتلال تحت ضربات المقاومة، في مشهد يلخّص امتداد المشروع الذي غرسه الشيخ منذ تأسيس حماس في أواخر الثمانينات. لم تكن حماس مجرّد فصيل، بل مشروع تحرر إسلامي شامل، واجه الاحتلال عسكرياً وفكرياً وسياسياً، وأسّس لحالة وعي إسلامي وشعبي تتجاوز حدود فلسطين.
أولاً: المقاومة وتحوّلها إلى مشروع استراتيجي.
حين أطلق الشيخ أحمد ياسين مشروعه، لم تكن موازين القوى تسمح بالتفكير في تحرير، بل كانت أغلب الطروحات تدور حول “السلام” و”الواقعية”. لكن ما بدأ كشرارة صغيرة في غزة، تحوّل اليوم إلى جبهة متكاملة تمتد من قطاع غزة، إلى الضفة، إلى الشتات، فالمهاجر الغربية، مروراً بمحور مقاومة إقليمي عابر للحدود.
أثمر هذا التحول عن: امتلاك بنية عسكرية متقدمة (صواريخ، طائرات مسيّرة، أنفاق).
نشوء جيل كامل من الفلسطينيين يرون في المقاومة شرفاً وقدراً لا خياراً.
تطوير الخطاب السياسي المقاوم وتقديمه بوجه أنظمة التطبيع والانبطاح.
ثانياً: ضرب المشروع الصهيوني في العمق.
معركة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 مثلت نقطة فارقة؛ فهي لم تكن فقط عملية اختراق أمني وعسكري نوعي، بل هزّت أهم ركائز المشروع الصهيوني:
- أسطورة الأمن: ظهر الجيش الإسرائيلي عاجزاً، والمستوطنون في حالة رعب دائم.
- الردع الاستراتيجي: لم تعد إسرائيل قادرة على شن حرب دون حسابات كبرى سياسية وعسكرية واقتصادية.
- تفكك الجبهة الداخلية: الاحتجاجات والانقسامات داخل الكيان في أوجها، حتى باتت فكرة “النهاية” متداولة في خطابهم.
ثالثاً: سقوط سردية الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان.
من المفارقات أن يُستشهد الشيخ ياسين على يد طائرات أباتشي أمريكية الصنع، بدعم صهيوني، بصمت دولي مطبق. واليوم، في ظل الحرب على غزة، تتجلى هذه المفارقة مجددًا:
الولايات المتحدة والغرب الذين يدّعون حقوق الإنسان، يمولون الإبادة الجماعية.
منظومة الديمقراطية الليبرالية، تكشف عن عنصريتها حين تتعلق الحقوق بالفلسطينيين أو المسلمين.
منصات الإعلام الغربي تمارس التضليل، والرقابة، وتحجب الحقائق بدلًا من الدفاع عن حرية التعبير.
رابعاً: تأثير المقاومة على المزاج العالمي.
لقد نجحت المقاومة في تغيير المزاج الشعبي العالمي تجاه القضية الفلسطينية: حركة المقاطعة (BDS) تشهد توسعاً متسارعاً.
الجامعات الغربية تشهد مظاهرات تضامنية تاريخية.
صورة “الضحية” الإسرائيلية تنهار، بينما تتكرّس سردية “الجلاد المحتل”.
خامساً: أين تتجه المقاومة اليوم؟.
إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني على أسس المقاومة لا الاستسلام.
السعي لبناء جبهة إسلامية وشعبية موحّدة تتجاوز الانقسام الفصائلي.
الانفتاح على أدوات القوة الناعمة (إعلام، قانون دولي، ذكاء اصطناعي، اقتصاد مقاوم).
تعزيز الحضور في المحافل الدولية عبر توثيق الجرائم، وملاحقة المجرمين.
رسالة أمل: بين جراح اليوم وبشائر الغد.
رغم المآسي، والدماء، والدمار الذي تتعرض له غزة وسائر فلسطين، إلا أن في المشهد جوانب مضيئة تبعث الأمل وتؤكد أن المشروع الصهيوني إلى زوال، وأن مشروع الأمة في التحرر والوحدة هو الآتي لا محالة.
لقد أثبتت المقاومة أنها ليست مجرد ردّ فعل، بل هي فعل متقدّم، يخطط، ويصمد، ويبني، ويقاوم، ويقود. وكما فاجأت الاحتلال في الميدان، فاجأت العالم أيضاً بإرادتها وبقائها وتوازنها رغم الجراح.
وها هو الجيل الفلسطيني الجديد، داخل الأرض المحتلة وفي الشتات، يثبت أنه أكثر تمسكاً بالحق، وأكثر وعياً من أجيال سبقته، وأكثر انفتاحاً على أدوات العصر، بما يبشّر بنقلة نوعية في إدارة معركة التحرر.
أما الأمة، التي بدا لبعض المحبطين أنها خذلت فلسطين، فهي اليوم تُبعث من جديد. من شوارع عمّان، إلى جامعات باريس، إلى مساجد جاكرتا، وأزقة صنعاء، وساحات الرباط، نرى نبضها يعود، وصوتها يرتفع، وأملها يكبر. وإذا كان الغرب يملك السلاح، فإن أمتنا تملك الإيمان، والحق، والتاريخ، والشعوب.
إن تحرير فلسطين لم يعد مجرد حلم بعيد، بل أصبح مشروعاً حقيقياً تتكامل فيه الجبهات: الميدان، والإعلام، والوعي، والشرع، والإنسان.
في ذكرى الشيخ أحمد ياسين، نقف أمام ثمار مشروعه التي أينعت رغم الحصار والدماء. لقد ثبت أن طريق التحرير يمر من بوابة المقاومة، لا من مكاتب السفراء. وأن الأمة لا تموت، طالما فيها رجال يؤمنون أن الله أعدل من أن يسلّط ظالماً إلى الأبد.
إنها معركة حضارية، قبل أن تكون عسكرية. معركة بين مقاومة تؤمن بالحق، واحتلال يدعي القوة. ومعركة بين أمة تنهض رغم الضعف، وغرب يتهاوى تحت وطأة نفاقه وازدواجيته.