د. أيمن نور يكتب : ورقة من ذاكرة مصر عندما دخل الجيش المصري لإنقاذ غزة

في عددٍ نادر من جريدة “المصري” سنة 1947، يظهر عنوانٌ يتجاوز كونه خبرًا عسكريًا إلى كونه صفحة من شرف الوطن:
“الجيش المصري يحتل غزة في الساعة السادسة من مساء أمس… الطائرات تدمر حصون العدو وتقصف تل أبيب”.
بهذا البنط العريض، نطقت القاهرة في وجه العالم، لتعلن أن غزة ليست مجرد معبر أو ملف، بل ساحة من ساحات الدم المصري، وجزء من جغرافيا الروح والواجب.
كانت لحظة 1947 لحظة فاصلة في التاريخ العربي، تسبق الإعلان الكارثي عن قيام “دولة إسرائيل” في 15 مايو 1948، وتحمل معها إشارات مبكرة للانفجار الكبير القادم.
مصر، ومعها جيوش سبع دول عربية، كانت تتحرّك حينها إلى فلسطين، لا استجابةً لقرار جامعة عربية فتية، بل لإرادة شعوبٍ ما زالت تؤمن أن فلسطين خط الدفاع الأول عن كرامة الأمة.
في غزة، حيث كتب الجيش المصري أولى فصول تواجده المباشر على الأرض الفلسطينية، لم يكن الميدان فقط للجنود، بل للسيادة المصرية في بعدها الأخلاقي.
كان ذلك قبل معاهدة “رودس” سنة 1949 التي رسّمت حدود الهدنة، وفرضت واقعًا سياسيًا هشًا جعل من قطاع غزة – لسنوات – تحت الإدارة المصرية دون ضمّه، في تعبير رمزي عن حراجة القضية، وحرص القاهرة على عدم استثمار الدم الفلسطيني في مشاريع توسّع، بل على العكس، إبقاء القضية حية، دون شبهة الاستحواذ.
لقد كانت غزة تحت الإدارة المصرية بين 1949 و1967، لا كـ”وصاية”، بل كحضانة عربية للجرح المفتوح.
وخلال تلك الحقبة، لم تُعامَل غزة كمجرد “عبء”، بل كمكون من المشروع القومي. عُيِّن فيها محافظون مصريون، وتأسست فيها حكومة مدنية، وافتُتحت فيها مدارس تحمل المناهج المصرية، وصحفٌ كانت توزّع فيها تصدر من القاهرة، مثل “روزاليوسف” و”آخر ساعة”… وكانت غزة تُجري امتحانات الثانوية العامة تحت إشراف وزارة التعليم المصرية.
حين نعود إلى أرشيف 1947، ونسترجع تلك الصورة الباهتة من الصحيفة القديمة، فإننا لا نبحث عن مجد مضى، بل عن ضمير غائب.
غابت اليوم غزة عن شرف النشرات، وغاب معها ذلك الصدق العربي الذي كان يُجبر الجيوش على أن تتحرّك لا لأجل أنظمة، بل لأجل مبادئ.
أين نحن من تلك اللحظة التي قُصفت فيها تل أبيب، لا لتهديد شعب، بل لكسر المشروع الصهيوني وهو في مهده؟
النكبة لم تكن في 1948 فحسب، بل في كل عام يُنسى فيه أن غزة لا تختصرها صور الدمار، بل يختصرها غياب القرار.
اليوم، يُترك أهل غزة وحدهم، تُقصف بيوتهم، وتُباد عائلاتهم، وتُقطع الكهرباء والماء، بينما تجتمع الأنظمة العربية – التي وُلد بعضها بعد تلك الحقبة بسنوات – على طاولة “التهدئة”، لا على مائدة القرار أو التضحية.
صفحة “المصري” ليست وثيقة فقط، بل مرآة تُري وجوهنا كما كانت، وتفضح ما آل إليه حالنا.
فغزة لم تكن يومًا “قضية” تطرح في المؤتمرات، بل كانت دائمًا “وجعًا” في الصدر العربي، لا يُسكن إلا بتحرير الأرض، وإعادة التاريخ إلى سكّته الصحيحة.
الجيش المصري الذي دخل غزة عام 1947، دخلها من منطلق العهد لا العداء، من منطلق الوحدة لا الهيمنة، من منطلق الكرامة لا المناورة.
لم يكن الغازي، بل الحامي. لم يكن الطامع، بل الشاهد على نكبةٍ لم تبدأ بعد.
فهل يمكن للزمان أن يدور، وللوجدان أن يستفيق، فنستعيد تلك اللحظة التي كانت فيها فلسطين قبلتنا السياسية والوجدانية، وكانت غزة جزءًا لا يُقتطع من قلب مصر؟

