يوسف عبداللطيف يكتب: شم النسيم بين التراث والحداثة

يعد شم النسيم جزءًا أصيلًا من الذاكرة المصرية، لكنه في الوقت ذاته يظل موضوعًا مثيرًا للنقاش والتأمل.
يرتبط هذا اليوم، الذي يظن البعض أنه مجرد احتفال شعبي، بتاريخ طويل وأبعاد عميقة في ثقافة الشعب المصري الذي لطالما تمسك بالعادات والتقاليد التي تتجذر في أعماق التاريخ.
فعندما نتأمل الاحتفالات المصرية بعيد شم النسيم، لا نستطيع تجاهل تلك الروح التي تنبض بالحياة في كل زاوية من هذا الاحتفال القديم.
إنه ليس مجرد يوم نحتفل فيه بتغير الفصول، بل هو دعوة للشعور بالراحة والسكينة والتواصل مع الطبيعة، وهو استحضار لذكريات أجدادنا الذين احتفلوا به قبل آلاف السنين.
ولكن هل نعي تمامًا أهمية هذا اليوم؟ هل ندرك ما يمثله؟ إنني أرى أن شم النسيم هو أكثر من مجرد تقليد قديم، هو مناسبة تشبع الروح وتربطنا بالزمان والمكان، تجعلنا نعيش في لحظة من الفرح الخالص الذي لا يعكر صفوه شيء.
في وقتنا الحالي، أصبح العديد من الناس يتجاهل الأبعاد التاريخية والثقافية لشم النسيم، وكأننا اعتدنا على أن تكون الحياة سلسلة من الأيام المتشابهة التي تفتقر إلى قيمة الأعياد والمناسبات.
لكن عندما ننظر إلى أصول هذا الاحتفال، نكتشف أنه يعود إلى الحضارة المصرية القديمة، بل وينبع من قلب الفرحة التي عاشها المصريون على مر العصور.
يذكر التاريخ أن الفراعنة كانوا يحتفلون به كعيد الربيع، وكانوا يتجولون في الحدائق والحقول، يحتفلون بتفتح الأزهار وجمال الطبيعة. كان الاحتفال بالنسيم البارد يدعوهم للتمتع بتجديد الأرض والحياة.
في يوم شم النسيم، لم يكن الناس يقتصرون على الجلوس في بيوتهم أو الأماكن المغلقة .. بل كانوا يخرجون إلى الهواء الطلق، حيث كانت الطبيعة تزين لهم كل شيء.
هل ننسى طقوس الفراعنة الذين كانوا يستيقظون مبكرين ليشربوا من ماء النيل ويغسلوا به بيوتهم؟ هل ننسى كيف كانوا يزينون منازلهم بالزهور ويتناولون الأسماك المملحة والبصل؟ أليست هذه التفاصيل الصغيرة دليلاً على أنهم كانوا يعيشون لحظة حقيقية من السعادة الخالصة؟
اليوم، لم يتغير الكثير. تظل هذه الطقوس تلامس أعماقنا، وإن اختلفت الأساليب، إلا أن الغاية واحدة: الفرح والسكينة.
إن شم النسيم هو عيد يربط بين جميع المصريين على اختلاف دياناتهم .. فهو لا يقتصر على فئة دون أخرى، بل هو يوم للفرح والمشاركة بين الجميع.
في مصر، لا يفرق الناس بين المسلمين والمسيحيين في احتفالهم بهذا اليوم، بل يشارك الجميع في هذه الاحتفالات التي تعكس الوحدة الوطنية والتسامح.
فهذا اليوم له أبعاد دينية مختلفة، فالمسلمون يجدون فيه ذكرى لنجاح نبي الله موسى عليه السلام في مواجهة فرعون، بينما يراه المسيحيون عيدًا يعبر عن أملهم في الحياة والقيامة.
إن شم النسيم يقدم رسالة عميقة عن المساواة والاحتفال بالحياة مهما اختلفت الأديان .. في هذا اليوم، لا فرق بين مسلم أو مسيحي، فالجميع يحتفلون بالطبيعة، بالأمل، وبالفرح، وهذا ما يجعل هذا العيد يحمل قيمة أكبر مما قد يتخيله البعض.
قد يكون من الصعب على البعض أن يفهموا القيمة الحقيقية لهذا اليوم في ظل انشغالهم بالحياة اليومية.
ولكن عندما نخصص وقتًا للتوقف والتأمل في هذا العيد، نجد أن شم النسيم هو فرصة للاتصال بالطبيعة، للتمتع بالحياة بكل تفاصيلها، وللتفكير في معنى التجدد والانتعاش الذي يمنحنا إياه فصل الربيع.
إنها فرصة لنا جميعًا للتأمل في نعمة الحياة والتواصل مع بعضنا البعض، بعيدًا عن ضغوط الحياة اليومية.
إن هذا اليوم هو تذكير لنا بأهمية الفرح في حياتنا .. ففي ظل الأوقات الصعبة التي نمر بها، يظل الاحتفال بشم النسيم بمثابة جرعة من الأمل والتفاؤل.
هو دعوة لنا جميعًا، لكي نعيش اللحظة، نحتفل بالحياة كما هي، دون تفكير في ما هو قادم، بل نعيش في لحظة من البهجة والسرور.
لن أستطيع أن أصف لكم كم هو مهم أن نحتفل بشم النسيم بكل شغف وحب .. هذا اليوم يرمز إلى شيء أكبر من مجرد طعام وشراب، أو مجرد طقوس نحتفل بها.
إنه رسالة لنا جميعًا بأن الحياة جميلة، وأن كل يوم يمكن أن يكون عيدًا إذا قمنا بتقديره والاحتفال به. فعندما نحتفل بشم النسيم، نحن لا نحتفل فقط بالربيع، بل نحتفل بالأمل في الحياة، ونحتفل بكل ما يجعلنا نبتسم رغم كل التحديات.
فلو أعدنا التفكير في هذا اليوم، لوجدنا أنه يحمل في طياته الكثير من الرسائل العميقة حول كيفية تفاعل الناس مع بعضهم البعض، واحتفائهم باللحظات الصغيرة التي تجعلهم يشعرون بالسعادة.
أرى أن شم النسيم ليس مجرد حدث تاريخي، بل هو أكثر من ذلك هو تجديد للعهد بين الناس، وإعلان عن أمل في غدٍ أفضل. هو يوم تلتقي فيه قلوب الجميع، ويُعيدون فيه التأكيد على معاني الحب والأخوة التي لا يحدها زمان ولا مكان.
وأدعو الجميع أن يشاركوا في هذا الاحتفال العظيم، وأن يتركوا كل ما يزعجهم خلفهم في هذا اليوم .. فلنحتفل بشم النسيم كعيد للروح، ونتعلم كيف نقدر كل لحظة من لحظات حياتنا. ولنبقى جميعًا متحدين في فرحتنا بهذا اليوم الجميل.
من خلال هذه المناسبة، يُظهِر المصريون للعالم قوة توحدهم ورغبتهم في مشاركة الفرحة، مهما كانت الظروف.
وتظل تلك اللحظات من الفرح والجمال التي تجمع بين الناس، بفضل الله، مثالا على المحبة والتسامح الذي يعيشه شعب مصر، مسلمين ومسيحيين، جنبا إلى جنب.