شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: “بلبن”… السيسي وإدارة الأوطان كما تُدار مصانع الألبان

قد يبدو غريبًا أن يجد البعض أنفسهم متفقين – ولو مؤقتًا – مع قرارٍ أصدره عبد الفتاح السيسي بشأن إعادة النظر في قرار إغلاق محال “بلبن”. لكن اتفاقي هنا لا ينبع من تأييد لحالة، بل من قراءة أعمق لعلامة… علامة تؤشر إلى مرضٍ مزمنٍ أصاب النظام، لا يتعلق بالألبان، بل بالعقلية التي تدير الدولة.

الأزمة الحقيقية ليست “بلبن”… بل ما يكمن خلف القرار بإغلاقها أو بإبقائها. فالاثنان معًا – قرار المنع وقرار الإعادة – ليسا سوى وجهي عملة واحدة: عملة تُدعى غياب التخطيط.
مصر، التي كانت أول من تبنّى نظام التخطيط المركزي في الشرق الأوسط، وأول من أنشأ وزارة للتخطيط في خمسينيات القرن الماضي، أصبحت الآن آخر من يمارس التخطيط الفعلي. لدينا “معهد قومي للتخطيط”، ولدينا خطط خمسية وعشرينية، لكننا لا نمتلك رؤية واضحة، ولا أولويات حقيقية، ولا منهجية عقلانية لاتخاذ القرار.

كل شيء في هذه الدولة يُدار بـ”الارتجال”، حتى حين يتعلّق الأمر بمؤسسات اقتصادية صغيرة مثل “بلبن”، فإن القرار لا يصدر بناءً على قواعد تنظيمية أو قانونية، بل بناءً على هوى السلطة ومزاج الجهاز الإداري، الذي ورث العشوائية كنهج، لا كاستثناء.

المفارقة المؤلمة أن الرئيس ذاته صرّح، في منتدى إفريقيا بشرم الشيخ في ديسمبر 2018، قائلاً بالحرف:
“لو مشينا بدراسات الجدوى، كنا عملنا 25% من الإنجازات بس.”
هذا التصريح لا يُعد زلّة لسان، بل رؤية متكاملة تسخر من العلم والتخطيط والعقل.

هذه الرؤية هي بذاتها السبب في كل ما آلت إليه الأوضاع في مصر من انهيار اقتصادي، وتآكل في قيمة الجنيه، وتدهور مستوى معيشة المواطن، وتضخم الدين، وتضييق الحريات… إنها رؤية اختزلت إدارة الدولة إلى “مشروع مقاول”، لا يحتاج سوى لأوامر وتنفيذ، لا لتفكير ومشورة.

من يبدأ دون رؤية، ينتهي حيث لا يعلم. المشروعات العاطفية التي أُطلق عليها “قومية” لم تكن سوى هروب للأمام من مواجهة الواقع. استُهلكت الموارد في مشروعات استعراضية، بلا مردود، وبلا ترتيب للأولويات، ففقدت الدولة قدرتها على امتصاص الأزمات، أو حتى فهمها.

القرارات تتخذ في دائرة ضيّقة، وبناءً على الانطباع، لا على المعلومة. قرارات تتغيّر كل صباح، بلا تقييم، ولا مراجعة، ولا مسؤولية. قرارات تعكس حكم الفرد لا حكم المؤسسات، وانفعال اللحظة لا حكمة التاريخ.

التاريخ لا يرحم من لا يتعلّم، بل يعاقبه بالتكرار. وقد قيل:
“الجنون هو أن تكرر الشيء ذاته وتتوقع نتائج مختلفة.” – ألبرت أينشتاين
من لم يتوقف ليتأمل في أسباب سقوطه، سيواصل السقوط إلى ما لا نهاية.

الفشل ليس قدرًا… بل اختيار.
هو نتيجة حتمية لمن لا يخطط، ولا يفكّر، ولا يتعلّم.

والنجاح، في المقابل، ليس “منحة”، بل حصيلة خطوات دقيقة، تبدأ من الفكرة، وتُبنى على الرؤية، وتُتوّج بالحكمة.

من لا يدرك أن التخطيط ليس رفاهية، بل ضرورة، ومن يعتقد أن “دراسات الجدوى” عائق، لا بوابة للنجاح… فهو لا يحكم دولة، بل يعبث بمصير أمة.

لذلك، فإن “بلبن” ليست مجرد متجر لبيع القشطوطه، بل علامة على أن هذا النظام أصبح عاجزًا عن التفرقة بين إدارة الألبان، وإدارة الأوطان.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى