مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: عيد القيامة المجيد بين ذكريات الطفولة وروح الوحدة المصرية

تنبض قلوبنا بفرحة العيد، كأنها شرايين وطن واحد يربطنا، كلما تذكرنا احتفالات عيد القيامة المجيد .. لا أزال أعيش في ذهنِ تلك اللحظات التي انغرس فيها هذا العيد العميق في روحي،

ذكريات بدأت في طفولتي الصغيرة في أحد شوارع الصعيد المصري، حيث كانت الجدران مليئة بالحب، وتفاصيل الحياة تشهد على وحدة قلوبنا نحن وأشقائنا المسيحيين.

كنا نعيش أعيادًا مشتركة دون أن نرى أي فاصل يفصلنا عن بعضنا البعض .. احتفالات عيد القيامة لم تكن بالنسبة لنا مجرد تقليد ديني للاشقاء المسيحيين، بل كانت لحظة تتشابك فيها الأفراح والأحزان، وتصبح روح الوطن وحضارته هي السائدة في كل بيت.

منذ أن كنا أطفالًا، بدأنا استعداداتنا لهذا اليوم المنتظر بشوق، وكأن الفرح لا يأتي إلا على أيدي جيراننا المسيحيين الذين كانوا أول من يهنئوننا في أفراحنا وأول من يشاركونا أحزاننا.

لم يكن ثمة حاجز بيننا، ولا مكان للأفكار التي تروج لها بعض الأصوات النشاز التي لا تعرف معنى الوطن، ولا تدرك قيمة الترابط بين أبناء الشعب الواحد.

كنا نتشارك معًا في لعب الأطفال وتبادل التهاني في عيد القيامة، حيث كنا نلبس الجديد من ملابسنا، وننتقل بين البيوت من أجل تقديم التهاني، وكأننا في قلب احتفالات وطنية حقيقية تعكس جمالية وروح مصر الحبيبة.

هذه الذكريات التي حملتها ذاكرتي في طفولتي، كانت تروي لنا معنى التضامن الحقيقي بين الناس .. من خلال مشاركتنا لهذه الأعياد مع المسيحيين، كان يتم تعزيز فكرة الوطنية لدينا، ولم نفكر يومًا في أي انقسامات تفرضها وسائل الإعلام أو بعض الأفكار التي انتشرت حديثًا في المجتمع.

بل كانت تلك الأعياد بمثابة تجسيد حي للوحدة الحقيقية التي تجمعنا تحت سماء واحدة، وتسير في شوارع واحدة، تحكمها القيم الإنسانية والمصرية الأصيلة. فمصر لا يمكن أن تكون إلا كما نعرفها: قلب واحد يعبر عنه شعب واحد.

مع قدوم عيد القيامة، ومعه شعائر الاحتفالات التي تبدأ بعيد الشعانين، لا تلبث تلك الذكريات الطفولية أن تعود لتغمرني مجددًا.

كان شعورنا في هذا اليوم مليئًا بالبهجة، حيث كانت الأشجار تنحني أمامنا، ونحن نصنع منها أغصانًا مزخرفة بزينة متواضعة، ومعها تنمو أرواحنا الطفولية وتكتمل بهجتنا.

في تلك الأيام، كانت السعادة لا تقتصر فقط على الاحتفالات الدينية، بل كانت تتجسد في بساطتها في المجتمع الذي كان يرى العيد عيدًا لكل واحد، سواء كان مسيحيًا أو مسلمًا.

تأخذني الذاكرة إلى أيام كانت فيها الوحدة الوطنية أكثر من مجرد فكرة عابرة، بل كانت جزءًا أساسيًا من تفاصيل حياتنا اليومية.

لم يكن أحد منا يشكك في ضرورة هذه الوحدة، التي تجعل من التعايش السلمي ليس مجرد شعار، بل واقعًا نعيشه بكل جوارحنا.

كانت التهاني في العيد تُرسل عبر ألسنة الجميع، بغض النظر عن الدين أو المذهب، وتظل هذه اللحظات محفورة في القلب،

حيث كان الناس يهللون معًا في عيد القيامة المجيد، ونحن معهم نحتفل كما لو أن هذا العيد هو عيد لنا جميعًا .. كانت تلك هي البهجة الحقيقية التي كانت تجمعنا في صغرنا، ولم تكن تعرف معنى التفريق أو التفرقة.

هذه الصورة التي أرسمها اليوم لم تكن مجرد ذكريات طفولية بريئة فحسب، بل كانت تعبيرًا حقيقيًا عن الفكرة التي لا تزال تسيطر على تفكيري حتى الآن فكرة الوطن الواحد الذي تتجسد فيه القيم الإنسانية في أكمل صورها.

بعيدًا عن أي نوع من الأيديولوجيات أو المحاولات لتشويه هذه الصورة الجميلة، تظل الحقيقة واحدة أن الاحتفالات بعيد القيامة المجيد كانت وما زالت تمثل مشهدًا مفعمًا بالحب والتسامح، وإن كان في بعض الأحيان يطفو على السطح بعض الأصوات المنعزلة التي تحاول أن تقطع هذه الروابط.

ربما يظن البعض أن هذه الذكريات أصبحت من الماضي، ولكنني أؤمن أن هذه الروح الوطنية العميقة التي تشكلت في طفولتنا يجب أن تستمر وتزدهر.

إن ما نشهده اليوم من حملات تستهدف الوحدة الوطنية والتعايش السلمي هو استحضار لتلك الأيام الطيبة التي عشناها في صغرنا، ويجب أن نتذكر دائمًا أن وطننا مصر هو أسمى من أي محاولات لتقسيمه.

فلنظل نحتفل معًا، لنشارك في أعياد بعضنا البعض، ولنبقَ على هذه الروح التي لا يفرقها الزمن ولا يغزوها التشويش.

فعيد القيامة المجيد ليس فقط عيدًا دينيًا، بل هو عيد نحتفل به جميعًا كأفراد أسرة واحدة، تسعى لتحقيق السلام والمحبة في هذا الوطن الذي يحتاج منا جميعًا إلى تعزيز وحدة صفه.

ويظل هذا العيد حاضرًا في وجداني، يمثل دعوة مستمرة إلى العودة إلى القيم الأصيلة التي جمعتنا معًا .. وفي عالم اليوم الذي يعصف به الكثير من التحديات،

تبقى هذه الذكريات شواهد على أن ما يربطنا أكثر من أي شيء آخر هو الإنسانية التي تشترط المحبة والاحترام.

عيد القيامة المجيد بالنسبة لي ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو رسالة مستمرة عن كيفية العيش معًا، ومعاملة بعضنا البعض بمزيد من المحبة والتقدير.

تظل ذكريات الطفولة هذه تسطع في سماء حياتنا، تمنحنا الأمل وتذكرنا بأن وطننا هو الأجمل حينما يكون الجميع يدًا واحدة، متحابين، متعاونين، لا مكان فيه للكراهية أو التفرقة.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى