مصر

د. سامح مسلم يكتب: بلبن.. حلوى بريئة أم شبكة دولية لغسيل الأموال والتهرب الضريبي؟


توسع صاروخي يثير الشبهات

خلال سنوات قليلة، تحولت سلسلة محلات “بلبن” من مشروع حلويات تقليدية بسيط في الإسكندرية إلى إمبراطورية إقليمية مثيرة للدهشة. تأسست “بلبن” عام 2021 كمحل صغير يبيع أرز باللبن وحلويات شعبية أخرى، لكنها بنهاية 2023 كانت قد امتلكت 160 فرعًا ضمن 6 علامات تجارية مختلفة، وافتتحت فروعًا في 8 دول عربية .

هذا النمو الصاروخي في زمن قياسي تجاوز المنطق التجاري المعتاد، وأثار تساؤلات حادة: “هل يدرّ بيع الأرز باللبن كل هذه الأموال؟”
مستحيل

الأرقام تتحدث عن نفسها؛ فمع نهاية 2024 توسعت المجموعة بافتتاح 14 فرعًا في الإمارات (دبي تحديدًا) و30 فرعًا في السعودية، فضلاً عن فروع أخرى في الأردن وعُمان وقطر والمغرب وغيرها . بل وتخطط الشركة لافتتاح فروع في أوروبا والولايات المتحدة قريبًا .

من أين جاء التمويل لهذه القفزة الخيالية؟ محاولة تتبُّع هيكل ملكية الشركة كشفت عن ملاك غامضين في الخلفية وراء عمليات الشركة الخارجية، مع ظهور ثلاثة أسماء في الواجهة فقط هي الأخوان مؤمن وكريم عادل وشريكهما إسلام سلامة . هذا الغموض عزز الشكوك بأن وراء “بلبن” شبكة تمويل خفية وربما شركاء ظل يستثمرون لأهداف غير معلنة

ازدادت الشبهات مع اتخاذ السلطات المصرية إجراءات مفاجئة ضد “بلبن”، حيث تم إغلاق عشرات الفروع بقرار من هيئة سلامة الغذاء وتحفظت الشرطة على بعض المنشآت. ورغم أن السبب المعلن كان مخالفات صحية، إلا أن الكثيرين ربطوا الخطوة بتقارير عن شبهات غسل أموال وتمويل غير مشروع عبر هذه المحلات. من جانبه، خرج الدكتور مؤمن عادل – المؤسس والرئيس التنفيذي – لنفي كل الاتهامات ، مؤكدًا أن الأموال المتدفقة نتاج “نجاح مبهر وفضل من الله” وأن “صناديق استثمارية من مختلف الدول عرضت علينا الشراكة” بسبب الإقبال الهائل على منتجاتهم .

وادعى عادل أن توسع “بلبن” مشروع تمامًا ويرتكز إلى أرباح حقيقية وضخمة من المبيعات، وحتى تصدير مكونات مثل الفاكهة ومواد التغليف . لكن هل يكفي هذا التبرير؟

الاجابة : لا

الموساد في الصورة؟ اختراق تحت غطاء الحلوى

ظهور اسم “بلبن” على الساحة الإقليمية تزامن مع تغيرات جيوسياسية كبرى في المنطقة، أبرزها موجة التطبيع بين إسرائيل ودول عربية. هذا ما فتح الباب أمام فرضية مثيرة وخطيرة: هل يمكن أن تكون يد جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد حاضرة خلف الكواليس؟

تاريخيًا، اشتهر الموساد باستخدام الشركات الوهمية كواجهات للتغلغل في المجتمعات العربية وتنفيذ عملياته السرية . فقد أنشأ مرارًا شركات ظاهرها تجاري بريء وباطنها نشاط استخباراتي بحت.

على سبيل المثال، كشفت تقارير حديثة أن الموساد أنشأ شركة وهمية في هنغاريا باسم “B.A.C Consulting” لتصنيع أجهزة إلكترونية مفخخة وتصديرها إلى عملاء في لبنان .

وفي عملية جريئة أخرى في ثمانينيات القرن الماضي، أقام عملاء الموساد منتجعًا سياحيًا فاخرًا في السودان كغطاء لعملية تهريب سرية، حيث تظاهر العملاء بالعمل كمدربي غوص نهارًا وانخرطوا بأعمالهم الاستخباراتية ليلًا . هذه الأمثلة وغيرها تؤكد نمطًا تاريخيًا مفاده أن الموساد لا يتورع عن استغلال أنشطة تجارية بريئة المظهر – من السياحة إلى التكنولوجيا – للتخفي وتمرير أجنداته .

في حالة “بلبن”، لدينا عوامل مريبة تتوافق مع أساليب استخباراتية معروفة: انتشار إقليمي غير معتاد لعلامة تجارية جديدة، هيكل ملكية غامض، وتدفقات مالية ضخمة لا تتناسب مع طبيعة نشاطها في بيع الحلوى. إن احتمال تورط الموساد في هذا المشروع يبقى فرضية، لكنها فرضية تجد ما يدعمها من سياق الأحداث.

فهل يمكن أن تكون محلات الأرز باللبن واجهة حديثة لعملية اختراق إسرائيلي ناعمة للمجتمعات العربية؟
السؤال بات مطروحًا بقوة، لا سيما مع معطيات القسم التالي.


شريك إماراتي وتطبيع الاستثمار

من أكثر العناصر إثارة للاستغراب في قصة “بلبن” هو التركيز على دبي كمنصة للتوسع الخارجي المبكر. لقد جاءت دبي في صدارة المدن التي خرجت إليها الشركة، بافتتاحها فروعًا عديدة هناك عقب اتفاقيات التطبيع بين الإمارات وإسرائيل.

ومما لا شك فيه أن بيئة الأعمال الإماراتية بعد التطبيع أصبحت مفتوحة على مصراعيها أمام الاستثمارات الإسرائيلية . بل إن التقارير تشير إلى تدفق عشرات الشركات الإسرائيلية – بينها شركات يقودها ضباط استخبارات سابقون – للعمل في دبي عبر شراكات محلية بعد 2020 . لذا عندما نرى شركة مثل “بلبن” تشق طريقها سريعًا إلى السوق الإماراتية المزدهرة، يخطر بالبال تساؤل حول هوية الشركاء الحقيقيين وراء هذا التوسع.

هناك شبهة بأن شخصية إماراتية نافذة تقف وراء الستار كشريك غير معلن لـ”بلبن”، تسهّل عملياتها وتوفر لها الغطاء في دبي. وفي ظل العلاقات الدافئة الجديدة بين أبوظبي وتل أبيب، ليس من المستبعد إطلاقًا أن يكون لبعض الاستثمارات الإسرائيلية واجهات عربية لتمويه منشأها الحقيقي.

الإمارات نفسها شهدت تعاونًا أمنيًا واقتصاديًا وثيقًا مع إسرائيل مؤخرًا، حتى أن رئيس الموساد السابق تامير باردو يمتلك حصة في شركة سايبر إسرائيلية تعمل في دبي ضمن تحالف مع شركة إماراتية محلية .

هذه المعطيات تجعل فكرة اختراق استخباراتي إسرائيلي عبر بوابة الاقتصاد الإماراتي أمرًا ممكنًا جدا. توسع “بلبن” الخاطف في دبي، بالتحديد، يمكن النظر إليه من هذا المنظار: هل هو مجرد توسيع أعمال طبيعي، أم رأس جسر استخباراتي اختير بعناية في قلب مدينة المال والأعمال الخليجية؟

جنسية سانت كيتس: جواز سفر للغموض

كشفت تحقيقات استقصائية عن تفصيل صادم آخر في قصة “بلبن”: أحد المؤسسين الرئيسيين (الدكتور مؤمن عادل) يحمل جنسية دولة سانت كيتس ونيفيس . قد يبدو الأمر للوهلة الأولى غير ذي صلة، لكن خبراء غسل الأموال يعرفون جيدًا ماذا تعني جنسية سانت كيتس.

فهذه الدولة الكاريبية الصغيرة تُعتبر ملاذًا ضريبيًا دوليًا، وتمنح جنسيتها للأثرياء عبر برامج شراء جواز السفر بالاستثمار . مقابل تبرع بحوالي 250 ألف دولار أو شراء عقار بقيمة معينة، يمكنك الحصول على جواز سفر سانت كيتس خلال ٣ أشهر .

ما مغزى ذلك؟ ببساطة، يتيح هذا الجواز لحامله نقل ثرواته عبر العالم بسرية مستفيدًا من عدم فرض سانت كيتس ضرائب على الدخل أو الثروة أو الميراث . كما يتيح دخول أكثر من 150 دولة بلا تأشيرة ويسهل فتح حسابات مصرفية حول العالم .

وجود هذه الجنسية لدى أحد أصحاب “بلبن” يفتح الباب أمام سيناريوهات مقلقة. إذ يمكن نظريًا لأي جهة دولية – سواء الموساد أو شبكة غسل أموال عالمية – استغلال هوية حامل جواز سانت كيتس لتأسيس شركات وحسابات مصرفية بأسماء مستعارة يصعب تتبُّعها.

وفي حالة “بلبن”، قد يفسر ذلك الكيفية التي تم بها إنشاء شركات وفروع في بريطانيا والولايات المتحدة ودول الخليج بسرعة خاطفة دون لفت الانتباه، حيث يمكن تمرير الأموال عبر ملاذات آمنة وبأسماء غير مرتبطة مباشرة بمصر.

هذا لا يعني اتهامًا قاطعًا لأصحاب “بلبن” باستخدام جنسيتهم الثانية لأغراض غير قانونية، لكنه جرس إنذار قوي يدق عندما يوضع بجانب باقي القرائن. جنسية سانت كيتس هنا بمثابة قطعة أخرى من الأحجية التي قد تشير إلى آليات تمويه متعمدة لمصادر الأموال وهوية المستثمرين الحقيقيين.

خدمات بريئة أم غطاء استخباراتي خطير؟

من المطاعم ومحلات الحلويات إلى شركات الشحن والنقل، تعددت أنشطة “بلبن” وشركاتها الشقيقة بشكل يلفت الانتباه. فالمجموعة لم تكتفِ بالحلوى والمأكولات، بل دخلت أيضًا في مجال اللوجستيات مؤخرًا؛ إذ أسس كريم عادل (الشريك المؤسس) في أغسطس 2024 شركة باسم “ليكس كارجو موفرز” لشحن البضائع . قد يبدو هذا تنويعًا تجاريًا طبيعيًا، لكن المراقبين يرونه اتساعًا أفقيًا مريبًا نحو قطاع مختلف تمامًا.

شركات الخدمات – سواء الغذائية أو السياحية أو قطاع النقل – طالما استُخدمت كأغطية مثالية للأنشطة الاستخباراتية، لأنها تتعامل مع جمهور واسع وحركة أموال وبضائع عبر الحدود. على سبيل المثال، استخدم الموساد واجهات في مجال السياحة (منتجع الغوص في السودان كما أسلفنا) والنقل (شركة الشحن الوهمية في قضية أجهزة النداء الآلي المفخخة) لتنفيذ عملياته .

في ضوء ذلك، يصبح تعدد أنشطة “بلبن” بين الطعام واللوجستيات مدعاة للتساؤل. هل نحن أمام مجموعة أعمال طموحة تتوسع ببراءة في مجالات مربحة؟ أم أن هناك استراتيجية خفية لضمان وجود غطاء مناسب لأي عملية، سواء لنقل أموال أو بضائع أو أشخاص تحت ستار مشروع تجاري مشروع؟ قد يكون الربط هنا بعيدًا للبعض، لكن محترفي مكافحة الجريمة المنظمة يعلمون أن التنوع المدروس للأنشطة التجارية قد يكون علامة على محاولة خلق شبكة معقدة يصعب تتبع خيوطها.

بين الشبهة والاتهام: دعوة إلى التحقيق

من المهم التشديد هنا على أننا لا نوجه اتهامًا قانونيًا نهائيًا إلى شركة “بلبن” أو مالكيها؛ فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته. ما يطرحه هذا المقال هو سلسلة من القرائن والتساؤلات المنطقية التي تستدعي التحقيق والتدقيق.

إن اجتماع عوامل مثل النمو غير الطبيعي، والهيكل المالي المبهم، والتوسع الدولي المتزامن مع ظرف سياسي مواتٍ لاستخبارات أجنبية، وامتلاك جنسية ملاذ ضريبي دولي – كل ذلك يشكل صورة مثيرة للريبة تستحق أن تؤخذ على محمل الجد. وربما يكون لدى الجهات الرقابية والقضائية في مصر وخارجها بالفعل خيوط تحقيق نشطة في هذا الملف الشائك.

في الوقت نفسه، حاولت “بلبن” الدفاع عن نفسها إعلاميًا بنفي صلة نشاطها بأي أموال مشبوهة أو أجندات غير تجارية . هذا الرد مهما كان مطمئنًا لا ينبغي أن يكون كلمة الفصل. الرأي العام له الحق في معرفة الحقيقة كاملة، وأجهزة الدولة مطالبة بعدم تجاهل هذه الشبهات الخطيرة.

وعليه ندعو إلى فتح تحقيقات شاملة على المستويين المحلي والدولي حول مصادر تمويل شركة “بلبن” وهياكل ملكيتها الحقيقية. المطلوب هو تتبُّع دقيق لمسار الأموال عبر الفروع المختلفة، خاصة تلك الموجودة في دبي (الإمارات) ولندن (بريطانيا) ونيويورك وغيرها من المدن الأمريكية. كما أن تعاون الأجهزة المختصة في الدول المعنية سيكون حاسمًا لكشف أي شبكة عابرة للحدود قد تكون وراء هذا المشروع.

في الختام، قد تكون “بلبن” حلوى لذيذة بريئة كما يدّعي أصحابها، وقد تكون حصان طروادة جديد يخفي بداخله لاعبين دوليين يخترقون الأسواق والمجتمعات تحت غطاء الحلوى.

الحقيقة لن يكشفها إلا تحقيق مهني متعمق تتكاتف فيه جهود الصحافة الاستقصائية مع سلطات إنفاذ القانون. لقد آن الأوان لكشف المستور وإنهاء الجدل بالدلائل القاطعة – أيا كانت الحقيقة – فالأمر أكبر من مجرد طبق حلوى، إنه يتعلق بسيادة الاقتصاد والقانون وأمن الوطن.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى