
لماذا لا توجد دولة تقود العالم الإسلامي؟ ولماذا رغم الشعبية الواسعة فشلت الحركات الإسلامية في تحقيق نهضة حقيقية؟ وكيف يمكن أن نبدأ مشروعًا نهضويًا جديدًا يعيد للأمة مكانتها؟
أمة تقارب ملياري مسلم بلا قائد مركزي
العالم الإسلامي يمتد عبر قارات عدة ويضم نحو ملياري مسلم في أكثر من خمسين دولة. ورغم هذه الأعداد والثروات والتاريخ العريق، لا توجد اليوم دولة واحدة مركزية تقود هذه المجموعة الكبيرة كما تفعل دول كبرى في حضارات أخرى.
فبينما تقود الولايات المتحدة المعسكر الغربي، وتتزعم الصين حضارتها الشرقية، وتبرز روسيا مركزًا للأرثوذكسية الثقافية، وتنهض الهند زعيمةً للحضارة الهندوسية؛ يبقى المسلمون دون “دولة مركزية” تمثلهم أو تدافع عن قضاياهم على الساحة الدولية.
هذا الفراغ القيادي جعل العالم الإسلامي أشبه بسفينة ضخمة بلا قبطان، تتقاذفها الأمواج والتحديات دون بوصلة واضحة أو وجهة محددة. والنتيجة هي حالة تراجع واضطراب، حيث تظل قضايا المسلمين الكبرى بلا حل جذري، من فلسطين إلى التنمية الاقتصادية وحقوق الإنسان، نظرًا لغياب الطرف القوي القادر على الجمع بين هذه الأطراف المبعثرة وقيادتها نحو هدف مشترك.
لماذا فشلت الحركات الإسلامية رغم شعبيتها؟
شهد القرن الماضي وبدايات القرن الحالي صعودًا لافتًا للحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي. حظيت هذه الحركات – مثل الإخوان المسلمين وغيرها – بتأييد شعبي واسع، واعتُبرت في نظر كثيرين أملًا للتغيير واستعادة الهوية والكرامة.
وصل الإسلاميون إلى سدة الحكم أو اقتربوا منها في دول عدة: ففازوا بانتخابات ديمقراطية في مصر وغزة وتونس، وكادوا يفوزون في الجزائر وغيرها. لكن برغم الدعم الشعبي الكبير، أخفقت هذه الحركات في تحويل الزخم الجماهيري إلى مشروع نهضوي مستدام يقود الأمة نحو التقدم.
كانت هناك عوامل عديدة وراء هذا الإخفاق. أولًا, اصطدمت تجارب الإسلاميين بمعارضة شرسة من قوى داخلية وخارجية رافضة لوصولهم إلى الحكم. كثيرًا ما واجهوا أنظمة تقليدية مدعومة من قوى كبرى لا ترغب في تغيير الخريطة السياسية القائمة. على سبيل المثال، تجربة الإخوان المسلمين في مصر انتهت سريعًا عام 2013 بعد أن واجهت رفضًا من مؤسسات الدولة وتحفظًا إقليميًا ودوليًا، مما أدى إلى إقصائهم عن السلطة. وبشكل مشابه في الجزائر، عندما فاز الإسلاميون في انتخابات مطلع التسعينيات تم إجهاض النتائج واندلعت أزمة دامية أودت بحلم التغيير هناك.
لكن المعارضة الخارجية والمؤامرات ليست التفسير الوحيد. فحتى عندما سنحت الفرصة ووصل الإسلاميون للحكم لفترة وجيزة، ظهر قصور واضح في الرؤية والإدارة. ركزت قيادات عديدة على الشعارات الدينية ورفع الآمال الكبرى دون تقديم خطط واقعية للتنمية وتحسين حياة الناس.
وحين حان وقت الاختبار، وجد الجمهور وعودًا كثيرة بلا تنفيذ حقيقي، وأيديولوجيا تغلب أحيانًا على الضرورات العملية لإدارة الدولة. ببساطة، لم يمتلك الإسلاميون في أغلب تجاربهم برنامجًا تفصيليًا لإقامة “الدولة النموذج” التي حلم بها أنصارهم. هذه الثغرات أفقدتهم ثقة شرائح من الشعب بمرور الوقت، وسمحت لخصومهم بتصويرهم كخطر على استقرار الدول أو كبديل غير كفؤ.
المفارقة أن الشيوعيين – على سبيل المثال – تمكنوا رغم عداء الغرب لهم في القرن العشرين من إقامة دول قوية وفرض أنفسهم على الساحة الدولية (كما حدث في الاتحاد السوفييتي ثم الصين وغيرها). في المقابل، لم يستطع الإسلاميون حتى الآن تأسيس دولة حديثة مستقرة تمثل ثقلًا عالميًا، رغم أن خطابهم الديني الحماسي جذب الملايين من المناصرين. هذا التباين يثير تساؤلات جوهرية: أين الخلل؟ وهل المشكلة في الفكرة نفسها أم في الأسلوب القيادي أم في الظروف المحيطة؟ ربما هو مزيج من كل ذلك، لكن النتيجة الواضحة واحدة: غياب نموذج ناجح حتى الآن يُلهم المسلمين ويثبت للعالم أن لديهم مشروعًا حضاريًا حقيقيًا.
الاستعمار والتقسيم… جراح ما زالت تنزف
لا يمكن فهم واقع التشرذم الحالي في العالم الإسلامي دون التطرق إلى التاريخ الحديث من استعمار وتقسيم ترك آثاره العميقة. قبل قرن تقريبًا، كان جزء كبير من الأمة الإسلامية موحدًا تحت مظلة سياسية واحدة – مثل الدولة العثمانية – لكن القوى الاستعمارية عملت على تفتيت هذه الوحدة مع بدايات القرن العشرين. اتفاقيات مثل سايكس-بيكو (1916) رسمت حدودًا مصطنعة في قلب العالم العربي والإسلامي، وأنشأت دولًا جديدة من رحم التفكيك. وهكذا خرجت عشرات الأعلام الوطنية إلى الوجود، ولكن بثمن باهظ: أمة مجزأة وروابط ضعيفة بين أجزائها.
هذا الواقع المُجزّأ فرض تحديات كبيرة. فقد نشأت كيانات سياسية صغيرة نسبيًا، اعتمد كثير منها في بقائه على حماية أو دعم خارجي. ومع كل خلاف حدودي أو عرقي أو طائفي تركه الاستعمار وراءه، ازداد الشقاق وتعمّق الانقسام بين الدول الإسلامية الشقيقة. وبدل أن تتوحد الجهود بعد الاستقلال لبناء قوة إقليمية أو حضارية تقود المسلمين، انصرفت كل دولة جديدة إلى همومها القطرية الضيقة، وأحيانًا دخلت في خصومات مع جيرانها. وللأسف، استمر إرث “فرِّق تَسُد” الاستعماري في إضعاف أي مشروع وحدوي إسلامي كبير حتى عقود طويلة بعد رحيل المستعمر.
كيف نبدأ مشروع نهضة جديد؟
واقع اليوم يُحتّم البحث عن مسار جديد يُخرج الأمة من حالة الدوران في الحلقة المفرغة. فبعد كل هذه التجارب المريرة – من فشل الحركات الإسلامية التقليدية، وغياب الدولة القائدة، واستمرار آثار التفتيت – بات من الواضح أن النهج القديم لم يؤتِ ثماره. إذن، ما العمل؟ وكيف نضع أقدامنا على طريق نهضة حقيقية في القرن الحادي والعشرين؟
أولى الخطوات قد تكون في إعادة صياغة الفكرة النهضوية ذاتها بعيدًا عن الشعارات المستهلكة. نحتاج إلى حركة فكرية واجتماعية جديدة ذات فكر إسلامي معتدل ورؤية طويلة الأمد، حركة لا تكرر أخطاء الماضي بل تتعلم منها. حركة لا تسعى إلى الصدام مع العالم، بل إلى التفاعل الذكي معه؛ تفهم موازين القوى الدولية وتتجنب معاداة الجميع بلا داعٍ. فالنهوض لا يعني إعلان الحرب على العالم، وإنما بناء الذات وتعزيز القدرات داخليًا حتى نحجز مكانًا لائقًا تحت الشمس.
كذلك، من الدروس المهمة ضرورة فصل الدين عن السياسة – أو بمعنى أدق: عدم استخدام الدين كأداة للصراع على السلطة. لقد أثبت التاريخ الحديث أن خلط الدين بالسلطة أضرّ بالدين وبالدولة معًا. الدين مكانه القلب والمسجد؛ فهو يهذّب الأخلاق ويوحّد القلوب ويرشد المجتمع روحيًا، لكنه لا يجب أن يتحول إلى برنامج حزبي أو وسيلة لإقصاء الخصوم. الدولة الحديثة التي نطمح إليها هي دولة مدنية تحترم الدين وتستفيد من قيمه الإنسانية، لكنها تُدار بالكفاءة والعلم والمؤسسات، لا بالخطاب الوعظي والوعود الحالمة.
وأخيرًا، فإن أي مشروع نهضوي لن ينجح دون رؤية وحدوية تتجاوز الحدود المصطنعة.
نحن بحاجة إلى تكتل فكري واقتصادي بين دول العالم الإسلامي، إلى تعاون حقيقي بين العقول والموارد عبر الأقطار المختلفة. لنعترف أن نجاح أي بلد مسلم وتقدمه هو إضافة لقوة الجميع. ربما لن تتوحد الدول سياسيًا في المدى المنظور، ولكن يمكنها أن تتقارب اقتصاديًا وثقافيًا وعلميًا لتبني كتلة متناسقة المصالح وقوية التأثير.
فالتكتلات الكبرى هي سمة هذا العصر، ولن يكون للعالم الإسلامي وزن يُذكر إذا بقينا فرادى متفرقين كلٌ يعمل بمعزل عن الآخر. دعوة للتأمل والعمل الجماعي هذه الدعوة ليست مجرد تنظير فكري، بل هي نداء مخلص إلى جيل الشباب خصوصًا للنظر بواقعية وشجاعة إلى المستقبل. لقد جربنا مسارات شتى على مدار مئة عام أو أكثر، وآن الأوان لنسأل أنفسنا: ماذا تعلّمنا؟
هل سنستمر ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، أم حان وقت كسرها والخروج نحو أفق جديد؟ فشل الإسلاميين في الماضي ليس نهاية المطاف، بل ربما يكون فرصة لميلاد فجر جديد بفكر مختلف وروح جديدة. مشروع النهضة القادم لن يولد من فراغ; إنه مسؤوليتنا جميعًا. كل شاب وشابة في مصر والعالم الإسلامي مدعو للمساهمة – بالفكر والعمل والمبادرة – في بناء المستقبل المنشود. مستقبل نجد فيه مكاننا بين الأمم المتقدمة، نحافظ فيه على هويتنا وديننا دون أن نحبس أنفسنا في قوالب جامدة أو شعارات عاطفية.
إنه مستقبل نصنعه بأيدينا عبر العلم والعمل والوحدة، لا بالخطابات وحدها. التاريخ لا ينتظر المتقاعسين. والسفينة التي تسير بلا قائد آن لها أن تجد البوصلة والمسار الصحيح قبل أن تبتلعها أمواج التراجع. اليوم، لدينا فرصة لكتابة فصل جديد من قصة نهضة هذه الأمة. فهل نحن مستعدون لبداية المشوار؟ القرار بأيدينا، والأمل معقود على وعي الجيل الجديد ليقول كلمته ويفعل فعله، حتى لا نبقى أمة بلا قائد إلى الأبد.