
يمضي اليوم قرن وأكثر على لحظة كان من المفترض أن تعلن ميلاد دولة حديثة تُبنى على إرادة الناس، لا على إرادة الحاكم.
تمر الذكرى 102 لدستور 1923، وتنهض الأسئلة من تحت الركام هل كان ذلك الدستور تجسيدًا لحلم أمة، أم مجرد مسودة مؤقتة لصراع ممتد بين القصر والاحتلال والشعب؟ وهل ولدت الدولة الحديثة فعلًا، أم أنها أُجهضت في مهدها؟
فقد أدهش دستور 1923 الجميع بقوة توقيته ووضوح أهدافه، ففتح أمام المصريين نافذة أمل طالما انتظروها.
لم يكن مجرد وثيقة سياسية عابرة، بل كان إعلان ميلاد الدولة الوطنية الحديثة بإرادة ناضجة وحلم شعبي جارف أراد أن يحكم نفسه بنفسه، دون وصاية من التاج أو الاحتلال.
أعاد هذا الدستور تعريف مفهوم السلطة في مصر، فانتزعها من أيدي الحكم الفردي، ووزعها بتوازن دقيق بين المؤسسات.
لم يسمح للحاكم أن ينفرد، ولم يُقصِ الشعب عن دوائر التأثير. منح البرلمان صلاحيات حقيقية، وربط الحكومة بإرادة الأمة، وجعل من المساءلة مبدأ لا يُساوَم عليه.
أثبت هذا الدستور عبقريته السياسية حين اختار النظام النيابي البرلماني كأساس للحكم، في وقت كانت فيه دول كثيرة لا تزال ترزح تحت أعتى أشكال الطغيان.
سبق عصره بأشواط، وقرّر أن يكون الشعب هو مصدر السلطات، لا القصر، ولا السلاح، ولا إرادة المحتل. فجرعة الحرية التي بثّها في الحياة السياسية لا تزال، حتى الآن، تُدرس كمثال نادر في لحظة نهوض وطني.
واجه هذا الدستور محاولات الخنق والإلغاء مرارًا، لكنه صمد بفضل التفاف الجماهير حوله .. قاوم القصر، وتحدّى الاحتلال، وفرض نفسه على الجميع كأمر واقع لا يمكن تجاهله.
أعيد العمل به بعد انتكاسات كبرى، لأن الشعب كان يرى فيه طوق النجاة الوحيد من فوضى السلطة المطلقة، والانفراد بالحكم.
فاجأ هذا الدستور الجميع بتفاصيله الدقيقة في حماية الحقوق والحريات، فلم يكتفِ بالشعارات، بل صاغ نصوصًا تضمن حرية التعبير، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء، والمساواة بين المواطنين، ومبدأ سيادة القانون. لم يكن وثيقة شكلية، بل مشروعًا متكاملاً لبناء دولة مدنية حديثة.
استحق هذا الدستور مكانته التاريخية لأنه لم يكن نتاج صفقة، بل ثمرة نضال وطني طويل .. خرج من رحم ثورة 1919،
وحمل تضحيات الشعب على ظهره، وسار بها إلى مائدة التشريع ليحول الأحلام إلى مواد دستورية .. كان تتويجًا لكفاح، لا غنيمة لنخبة .. ولذلك، ظل محفورًا في الذاكرة كأول محاولة جادة لترسيخ دولة القانون والمؤسسات.
أربك هذا الدستور خصوم الحرية، لأنه نقل مركز الثقل من العرش إلى البرلمان، ومن الحاكم إلى المواطن .. فرض رقابة شعبية على كل سلطة،
وقطع الطريق على عودة الحكم الفردي، وفتح أبواب التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة. لقد صنع من مصر نموذجًا مُلهِمًا لدولة كانت تتلمس طريقها نحو النور.
أذهل هذا الدستور الجميع بقدرته على البقاء رغم كل محاولات الطمس .. أُلغي في الثلاثينيات، وعاد أقوى في منتصف الثلاثينيات.
حورب علنًا، وانتُقِد ظلمًا، لكنه ظل الملاذ الوحيد حين كانت البلاد على شفا الانفجار. لم يكن دستورًا مثاليًا، لكنه كان أقرب ما وصلنا إليه من مشروع وطني نابع من الناس ولأجلهم.
رسّخ هذا الدستور قواعد التمثيل النيابي، فأنشأ مجلسي الشيوخ والنواب، وجعل من الانتخابات وسيلة شرعية للتداول،
ومن النقاش السياسي أداة لتصحيح المسار .. أوجد مناخًا يتيح لكل تيار أن يعبر عن نفسه تحت مظلة القانون، بدلًا من القمع والإقصاء والوصاية الفكرية.
أعاد هذا الدستور للأمة ثقتها في ذاتها، بعد عقود من التهميش والإذلال. لم يكن مجرد وثيقة قانونية، بل إعلان ولادة إنسان مصري جديد يشعر أنه مواطن، لا رعية.
يدرك أنه شريك، لا تابع .. يعيش في دولة، لا في مزرعة. لقد زرع هذا الدستور الوعي السياسي في النفوس، وجعل من السياسة شرفًا لا مؤامرة.
أنقذ هذا الدستور مصر من السقوط الكامل في قبضة الاحتلال، لأنه قدّم نموذجًا مختلفًا لإدارة الصراع. لم يرفع السلاح، بل رفع القانون.
لم يهدم الدولة، بل أعاد بنائها من الداخل .. لم يخاصم الشرعية، بل أعاد تعريفها على أسس جديدة. وكان ذلك أذكى رد سياسي على عصور من الاستبداد والانكسار.
جسّد دستور 1923 لحظة استثنائية في التاريخ المصري الحديث، لحظة كتب فيها المصريون مستقبلهم بأيديهم، لا بأوامر فوقية.
لحظة لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة طبيعية لنضج وطني ووعي جمعي .. ولهذا، فإن كل تجربة دستورية بعده كانت تدين له، وتستلهمه، وتُقارن به.
يستحق دستور 1923 أن يُعاد قراءته اليوم لا كمجرد ورقة من الماضي، بل كمرآة تُظهر ما كان ممكنًا، وما يجب أن نعود إليه إذا أردنا حقًا بناء دولة تحترم شعبها وتخضع لحكم القانون.
دستور وُلد من ثورة الشعب المصري – ثورة 1919 -، وحُمِل على أكتاف الناس، وصمد في وجه الطغيان. دستور ما زال حتى الآن، رغم السنين، يُثبت أنه لم يكن مجرد نص، بل نداء حرية حي لا يموت.