مقالات وآراء

د.أحمد عطوان يكتب : مرثية الدكتور أيمن نور في وفاة جيل مصري

استيقظت من نومي كعادتي في يوم أجازتي أرتب الأوقات ليوم مشحون بالواجبات الأسرية والأدبية والمناسبات الإجتماعية وقراءة ما تيسر من بعض الكتب السياسية.


كنت مفعما بالنشاط والحيوية والجاهزية ، ولكن قبل الدلوف الى البدء بأولى واجباتي أردت مطالعة بعض رسائل الواتساب ، استوقفتني رسالة من أخي وصديقي الدكتور أيمن نور ، كانت رابطا لمقال سطره حديثا على الفيس بوك ، ولأني من عشاق قلمه ومريدي مقالاته شرعت أقرأ في المقال، وياليت مافعلت !


هزتني الكلمات هزا ، زلزلت كل عوالمي المستقرة، أدخلتني في حالة من السكون في كهف مخيف لم أبرحه بعد ،ولم أقم من لحظتها بأي واجب حياتي من قائمة الواجبات الطويلة.


لم أتمالك نفسي بعد قراءة العنوان والسطور الأولى … بكيت .


بكيت لأن كل حرف في مقاله كان مرآةً لقلبي، وكل جملة كانت صدى لصوتي الداخلي، الذي أخفيه عن الناس وأبكيه بيني وبين الله منذ غادرت مصر أواخر 2013م ، ولايدرك وجع الفراق الا من ذاق، حين تنكسر روحه بين جدران صامتة لا تعرف دفء الأحباب، ولا تراب الوطن ، ولا يستطيع حتى أن يموت فيه.


بكيت كثيرا لأن المقالة التي كتبها بمداد الألم والحنين والوجع للوطن لم يكن يكتبها عن نفسه، ولكن كتبها عني ، وعن جيلٍ كامل من المصريين رحل عن مصر وهو فيها ، أو رحل عنها في المنافي، بعيدًا عن الأهل، بعيدًا عن الأوطان، بعيدا حتى عن تلك اللحظة التي يستحق فيها الإنسان أن يغسل بدموع أحبته، ويدفن بين تراب وطنه، وترفع له أكف الضراعة بالدعاء بالرحمة من أهله، وجيرانه، وأقاربه، ومعارفه.


بكيت لأن عنوان المقالة نقلني في غمضة عين من الحياة الى الموت، ومن ظلم الطغاة لنا في حياتنا ومطارتهم لنا حتى في مماتنا فقد كانت البداية :” يوم أن أعلنوا وفاتي..” أفقت فجأة على أن الموت وهو الحقيقة الأبدية بات قريبا ونحسبه بعيدا،

ولطالما ودعت صديقا بعد صديق في الغربة وكنت أرقب لحظة وضع الرخامة على قبره وتطاردني ذات اللقطة وهم يضعون تلك الرخامة تحمل اسمي على قبري في المنفى.
يا الله ما أقسى الموت في الغربة!


وما أمر أن ترحل عن الدنيا وأنت تحمل في قلبك كل هذا الشوق للتراب الذي نفيت عنه، وكل هذا الحنين لرائحة الوطن، لرائحة الخبز في قريتي اخناواي، لصوت الأذان من مئذنة سيدي إسماعيل الأبجي، لهتاف من القلب على سلم نقابة الصحفيين، لضجيج شارع جامعة الدول العربية ، لازدحام شارع البطل أحمد عبد العزيز، ولصوت مطابع الأهرام وهي تدور لميلاد طبعة جديدة من جريدة تحمل اسمي على غلافها رئيسا للتحرير.


مقالة الدكتور أيمن نور لم تكن مجرد كلمات، بل كانت نحيبا صامتا دوي في قلوب كل من ذاق الغربة قسرا، وكل من ذاق مرارة الظلم في وطنه قهرا، فاختار أن يفر بدينه أو رأيه أو كرامته من طغيانٍ لا يرحم.


المقالة لم تكن مجرد خواطر مغترب، بل كانت صرخة في برية المنافي، كانت مرثية جيل بأكمله، كتب الله علي بعضه أن يغادر بلاده مكرها، وأن يعيش بقية عمره حالما بالعودة أو أن يموت في صمت ، والمرثية طالما كانت قصيدة حزينة للتفكير المؤثر، والجاد، والحزين، وعادة في “رثاء للموتى” ، ولكن جعلها أخي أيمن هذه المرة قصيدة في “رثاء الأحياء”!


كلمات نور كانت مرثية جيلٍ كامل من الشرفاء، بعضه يعيش مغتربا في وطنه ، وبعضه طاردوه ونفوه خارجه، جيل مغترب يحمل الوطن في قلبه ولم يترك الوطن خلفه، لم ينسه، ولم يتخل عنه، جيل لم تفرقه الحدود، لكنه تمزق بين شوق قاتل للعودة ،وخوفٍ دائم من مصير محتوم إذا عاد، جيل يناضل واقفا، يواجه استبداد الحكام، وسبات الشعوب، وتآمر المنافقين المتاجرين بالوطنية.

بكيت وجعا وفرحا لكلمات الصديق أيمن نور فهي لم تكن لطما في كربلاء المنفى بقدر ما كانت تحمل إصرارا يشفي غيظي على شرف المضي في الطريق حتى آخره ، فقد كتب نور: “الاختلاف ليس خيانة، والغربة ليست عارا، بل بعض الكرامة”


صدقت والله .. لكن الطغاة يا صديقي جعلوها خيانة ، كم شوهونا وكم ظلمونا وشيطنوا صورتنا في عيون الناس ، كم نعتونا بالخيانة لأننا رفضنا الطغيان، وكم طاردونا لأننا آثرنا أن نكون أحرارا على أن نعيش عبيدا


أجزم أن كل من عاش في الغربة لم يكن خائنا ولا جبانا، ولكنه مات باحثا عن الكرامة


هذه هي الحقيقة وان اخفوها، كل من في المنفى ، كانوا الأصدق، الأطهر، والأوفى، لكن الطغاة لا يحبون الصادقين، فالأنظمة المستبدة تكره الأوفياء لأنها لا تستطيع شراءهم، ولا إخضاعهم ، كانوا شجعانا بما يكفي ليقولوا “لا”، وكانوا أبطالا بما يكفي ليحملوا وطنهم في قلبهم حتى آخر نفس.
فنحن يا صديقي لم نطلب شيئًا أكثر من أن نحيا بكرامة، أو نموت ونحن نحمل شرف المحاولة، لم نخن، لم نساوم، لم نصمت على الذل، ولم نبع القضية على أبواب السلطان،


فقط لأننا قلنا “لا” للطغيان، لأننا أردنا وطنا حرا، لأننا تمسكنا بكرامتنا، صرنا خارج الوطن ولم يصير لحظة الوطن خارجنا.


أما جملته الأخيرة التي حفرت في روحي عمقا: ” أطالب بعودة مغتربٍ عزيز… فالأرض – كل الأرض – بطنها سواء؛ هنا أو هناك. ما الفرق؟
أقول لك بل هناك فرق موجع، أيها الحبيب أيمن نور – وان كنا نؤمن أن الأرض كلها لله ولا تدري نفس بأي أرض تموت – الفرق أن يوارى الجسد في ثرى الوطن، أن أدفن مع أبي وأمي لعلي أنال حنينا فقدته ، أن يصلوا على الجنازة في مسجد يعرفني فيه الراكع والساجد،

أن تمشي خلفي قلوب أحبتني، وتلهج بالدعاء نفوس افتقدتني، ويزورني في قبري من حرمهم المستبدين من زيارتي وزيارتهم في الدنيا، الفرق يا صديقي أن تكون الأرض ترابك، لا تراب غيرك، وأن تدفن في بلد نطقت فيها أولى كلماتك، لا في مدينة لم تسمع ضحكتك يوما.


ليس هذا اعتراضا على قدر الله ، ولا تعارضا مع ماسطرته أخي الحببب أيمن نور، فهي الأماني وطاب قضاء الله ، أدرك أنه لم تكن الغربة خيارا، بل كانت نجاة، ولم تكن حلما، بل كانت كابوسا اخترناه خوفا من كابوس أشد، من سجون العار، من الاعتقال والتعذيب والاخفاء القسري، من المذابح الجماعية، من أحكام الإعدام الجاهزة.


فإن متنا، فلنمت واقفين، مرفوعي الرأس، وليبقى اسمنا شاهدا على أن جيلا كاملا من المصريين، عاش ومات داخل الوطن وفي المنافي، لكنه لم يتخل عن وطنه ولا عن مبادئه.


يا صديقي والله – كما علمتنا – لن نتركهم في المحيا والممات، ولن نستسلم حتى الوفاة، وان أفسدوا علينا دنيانا فسوف نفسد عليهم دنياهم وأخراهم، أي استبدادٍ هذا الذي لا يكفيه أن يقتلنا ونحن أحياء، بل يطاردنا حتى في موتنا، أي ظلم هذا الذي يجعل الوطن قاسيا إلى هذا الحد،

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى