
في خضم الأزمات المتراكمة والتحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها مصر، تظل قضية المعتقلين واحدة من أكثر الملفات إلحاحًا وإنسانية، بل وأشدها تعقيدًا.
هؤلاء المعتقلون “سياسيون، شباب، أكاديميون، مهنيون، نقابيون، وحتى طلاب” لم يعودوا مجرد أرقام تُسجل في تقارير المنظمات الحقوقية أو سطور عابرة في بيانات النفي والتبرير الرسمي، بل هم بشرٌ من لحم ودم، لهم عائلات تنزف يوميًا انتظارًا، وأمهات تتشبث بالأمل، وأطفال يكبرون دون احتضان آبائهم.
لقد طال الصمت، وامتدت المعاناة سنوات، وتكررت نداءات الإفراج والمراجعة دون استجابة فعلية تليق بحجم المأساة.
لم تعد القضية ترفًا سياسيًا، ولا مناسبة لمزايدات إعلامية، بل أصبحت قضية ضمير وطني، وامتحانًا حقيقيًا للإنسانية، والعمل على مستقبل أكثر استقرارًا وتوازنًا.
الحديث عن حقوق المعتقلين ليس خروجًا عن الإجماع الوطني، بل هو جوهره. فالدولة القوية لا تُقاس فقط بقبضتها الأمنية، بل بقدرتها على استيعاب الاختلاف، ومواجهة الأصوات المعارضة بالسياسة لا بالسجن، وبالحوار لا بالإقصاء.
وكل يوم يمر على إنسان خلف القضبان ظلمًا، هو خصم من رصيد العدالة في هذا الوطن، ووصمة على جبين الضمير الجمعي.
لسنا بحاجة إلى تقارير المنظمات الدولية كي ندرك حجم المأساة. فوفاة معتقل بسبب الإهمال الطبي أو ظروف الاحتجاز القاسية ليست مجرد “حادث فردي”، بل مؤشر على منظومة تحتاج إلى مراجعة شاملة.
كيف يمكن أن تُترك آلاف الأرواح معلقة خلف جدران الزنازين، دون محاكمة عادلة أو فرص حقيقية للدفاع؟ أليست العدالة أساس الملك؟ وأليس من حق هؤلاء الحياة الكريمة، ولو كانوا مخالفين في الرأي أو التوجه؟
القيادة السياسية اليوم أمام لحظة حاسمة. فإما أن تُبادر بقرار شجاع يعيد الاعتبار إلى قيم العدالة والرحمة، ويمنح الوطن فرصة لفتح صفحة جديدة تُبنى على التعددية والمصالحة، أو تستمر في إدارة ملف المعتقلين بمنطق التجاهل والجمود، لتتفاقم التوترات وتُغلق نوافذ الأمل في أي انفراجة حقيقية.
لا بد من خطوة، ولا بد أن تكون الآن، فالإفراج عن المعتقلين السياسيين، هو أقل ما يمكن تقديمه في سبيل ترميم ما تصدع من الثقة بين الدولة والمجتمع.
والمعارضة الوطنية – سواء في الداخل أو الخارج – مدعوة كذلك إلى رفع سقف المطالبة بحقوق الإنسان، دون شعارات عبثية أو تصفية حسابات، بل بروح إنقاذ الوطن، لا استغلال أوجاعه.
الحرية لا يجب أن تكون حكرًا على من يوافق السلطة في رؤيتها، والحق في الحياة لا يُشترط له بطاقة ولاء سياسي.
آن الأوان لاعتراف واضح بأن الوطن يتسع للجميع، وأن المعتقلين ليسوا خصومًا، بل مواطنون لهم كامل الحقوق، قبل أن يكونوا أصحاب رأي.
في النهاية، المعتقلون ليسوا أرقامًا في جداول وزارة الداخلية، بل أبناء هذا الوطن. نداءاتهم من خلف القضبان لا يجب أن تذهب أدراج الرياح.
كل يوم تأخير في إطلاق سراحهم هو يوم يُعمّق الجرح الوطني، ويؤجل مصالحة تاريخية تحتاجها مصر اليوم قبل الغد.