مقالات وآراء

د. عدنان منصور يكتب : المفاوضات النووية في عُمان … الاتفاق آتٍ وإنْ طال التفاوض!

ليست المرة الأولى التي تنخرط سلطنة عُمان في مساعيها لاحتضان المفاوضات النووية بين إيران والغرب، حيث للسلطنة علاقات متميّزة مع الولايات المتحدة وإيران ترجع لعقود طويلة. في عام 1967 قدّمت إيران الشاه دعماً عسكرياً لعُمان، كان من نتيجته إخماد الثورة التي اندلعت في ظفار التي أرادت الاستيلاء على مسقط. بعد سقوط الشاه احتفظت عُمان بعلاقات وديّة مع النظام الإسلامي،

رغم الأجواء المتوترة التي سادت علاقات إيران مع جاراتها الخليجيّة. أما الولايات المتحدة، فقد سبق لها أن ارتبطت مع عُمان بمعاهدة الصداقة والملاحة الموقعة بين البلدين عام 1833، وهدفها التنسيق مع عُمان لحماية السفن التجارية الأميركية من القراصنة والقوى الاستعمارية المعادية في بحر عُمان. وفي عام 1980 وافقت مسقط على السماح للأسطول الأميركي باستخدام المرافق العسكرية العُمانية،

من أجل ضمان تدفق النفط إلى الغرب عبر مضيق هرمز. علاقات عُمان المتينة بالدولتين، خوّلتها عام 2009 للقيام بدور الوسيط عبر الدبلوماسي والأكاديمي العُماني سالم بن ناصر الإسماعيلي، المدير التنفيذي للهيئة العامة للاستثمار في عُمان، ومن أقرب مساعدي السلطان قابوس بن سعيد. في ذلك العام بدأت الوساطة العُمانية مسارها، بعد أن ألقت السلطات الإيرانية القبض على ثلاثة أميركيين بتهمة التجسّس وأودعوا سجن «ايفين» في طهران.

كما كان لإيران أربعة إيرانيين معتقلون في الولايات المتحدة، من بينهم دبلوماسي سابق أوقف في بريطانيا، بعد أن اتهموا بتهريب أسلحة، ومعدات عسكرية، وانتهاكهم للقرارات الغربية المفروضة على إيران. عام 2010، نجحت مساعي الوسيط العُمانيّ بتبادل المعتقلين، والإفراج عنهم، مما أفسح المجال لاحقاً أمام خطوات أكبر ستسلكها واشنطن.

في شهر كانون الأول/ ديسمبر2010 توجّه جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشيوخ آنذاك، إلى عُمان لملاقاة السلطان قابوس، ليبحث معه عما إذا كان بوسع السلطان تسهيل مفاوضات رفيعة المستوى مع الإيرانيين في مسقط لمناقشة ملف البرنامج النووي الإيراني. تمكنت عُمان لاحقاً من جمع الطرفين الأميركي والإيراني في مسقط، حيث ضمّ الفريق الأميركي عدداً من الدبلوماسيين، كما تألّف الفريق الإيراني من محمد جواد ظريف، وعلي أكبر صالحي، وعلي أصغر حاجي نائب وزير الخارجية.

انحصرت المقترحات الإيرانية في رفع العقوبات عن إيران، والاعتراف بحقها في إنتاج الوقود النوويّ، وتبديد المخاوف الدوليّة من طهران لجهة عدم سعيها إلى إنتاج سلاح نووي. لم تتوقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي و»إسرائيل»، عن رصد مستمرّ ودقيق بغية وقف برنامج إيران، واستخدام الوسائل كافة لوضع حدّ لتقدّمها التكنولوجي النوويّ، واللجوء إلى وسائل التجسّس، والهجمات الإلكترونية والاغتيالات التي طالت علماء ذرة إيرانيين وضباطاً مرتبطين بالإشراف على البرنامج النووي الإيراني.

الرصد الغربيّ جاء بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، وتوقف الشركة الألمانية Kraft Work Union بعد الثورة، عن بناء محطة بوشهر النووية التي بدأ العمل بها في عهد الشاه عام 1974. عام 1995 وقعت إيران وروسيا اتفاقاً يقضي ببناء مفاعل نووي في بوشهر لإنتاج الطاقة للأغراض السلمية، على أن يتمّ البناء عام 2007، لم تتوقف واشنطن عن العمل على إعاقة تنفيذه، بعد فشل المفاوضات النووية الإيرانية المتقطعة مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي جرت بين عامي 2003 و2013، التي لم تسفر عن حلّ بسبب الشروط التعجيزية التي طرحها الثلاثي الأوروبي.

دفع الفشل بالثلاثي الأوروبي، ومعه وعلى رأسه الولايات المتحدة للعمل على فرض سلسلة من العقوبات القاسية على إيران عبر مجلس الأمن. ظلت علاقات إيران مع الغرب يسودها التوتر، بعد فشل المفاوضات التي جرت على مدى 15 عاماً، ولحين انتخاب الشيخ حسن روحاني رئيساً لإيران عام 2013. وقد أسّس روحاني لمرحلة جديدة من مراحل الملفّ النووي، إذ دعا إلى حلّ خلاف إيران مع الغرب عن طريق المفاوضات، علماً أنّ روحاني كان كبير المفاوضين الإيرانيين مع الثلاثي البريطاني ـ الفرنسي ـ الألماني بين عامي 2003 و2005.

مع تسلّمه السلطة تحركت الدبلوماسية بين طهران وواشنطن بوتيرة عالية، رغم شكوك الأخيرة إزاء هدف طهران من برنامجها النووي، التي ترى انّ إيران ليست بحاجة إلى برنامج نووي سلمي، طالما أنها تمتلك ثروات ضخمة من النفط والغاز تكفي حاجتها لفترة طويلة! لم تمنع هذه الشكوك، من لقاء تاريخي تمّ يوم 26 أيلول/ سبتمبر 2010 بين وزير الخارجية الاميركي جون كيري ونظيره الإيراني جواد ظريف في نيويورك، حصل اللقاء في ختام اجتماع غير مسبوق بين ظريف ونظرائه في الدول الكبرى، وأسفر عن اتفاق لإجراء مفاوضات جديدة في جنيف في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2013.

في أواخر هذا العام، جرت محادثات بين الإيرانيين ونظرائهم الغربيين، على مدار خمسة أسابيع بشكل متقطع، من أجل إحياء المفاوضات حول البرنامج النوويّ الذي بدأ يولّد مخاوف قويّة من اندلاع حرب في الشرق الأوسط، إذا ما أصرّت إيران على تطوير برنامجها. أسفرت عن توقيع اتفاق في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، بين المجموعة 5+1، وإيران مدّته 6 أشهر، قضى بتجميد مؤقت لأنشطة إيران النووية، ويكون مقدمة لحلّ نهائي. دخل الاتفاق حيّز التنفيذ في شهر كانون الثاني/ يناير عام 2014.

إلا أنّ الفترة لم تكفِ للتوصل إلى حلّ نهائي، لذا مدّدت لأربعة أشهر أخرى، ثم تبعها تمديد أخير لمدة سبعة أشهر، ليبصر الاتفاق النور في شهر آذار/ مارس 2015، ويوقع عليه نهائياً في 1 تموز 2015. الاتفاق النووي أحدث دوياً في العالم، وجنّب المنطقة حرباً مدمّرة. إلا أنّ ردود فعل عنيفة صدرت عن «إسرائيل»، حيث اعتبر نتنياهو أنّ الاتفاق، ليس اتفاقاً تاريخياً، بل هو «خطأ تاريخي»! سار الاتفاق النووي بهدوء حتى مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض خلفاً للرئيس باراك أوباما، لينقضّ على الاتفاق عام 2018، وينسحب منه، ويفرض العقوبات الأحادية على إيران، رغم إقرار الوكالة الدولية احترام إيران للاتفاق وتطبيقه بشفافية.

اليوم تعود إيران مجدّداً إلى المفاوضات مع أميركا وبوساطة عُمانية. هذه المفاوضات لا بدّ من أن يُكتب لها النجاح وتؤدّي الى السلام، لأنّ الطرفين لديهما رغبة في إجرائها، وعدم إفشالها. الإيراني يريد التوصل إلى حلّ مشرّف مع واشنطن يضمن حقوقه المشروعة، ويبدّد مخاوف الغرب. واشنطن بدورها تريد حلاً يجنّب المنطقة الحرب، لكن الحلّ الأميركي لا يمكن له أن يأتي على حساب البرنامج النووي الإيراني، الذي تريد واشنطن إيقافه وإنْ كان سلمياً، وأيضاً لا يمكن لها أخذ كلّ ما تطلبه من إيران. كما أنّ إيران لا تستطيع أن ترفض بالمطلق مطالب واشنطن منها. إذ بين حقوق إيران المشروعة ومطالب واشنطن التعجيزية، هناك قاسم مشترك بحدّه الأدنى، لا بدّ له من أن يبدّد هواجس الغرب، ويعطي بالتالي إيران حقها المشروع في امتلاك برنامج نووي سلميّ لن تتخلى عنه بأيّ شكل. سلطنة عُمان كانت فاتحة مفاوضات شاقة ومضنية أسفرت عن اتفاق نووي عام 2015، لم يدم طويلاً بسبب انقضاض ترامب عليه.

ها هي عُمان بعد 15 عاماً، تعود كوسيط فاعل تحتضن من جديد مفاوضات نووية لا بدّ من إنجاحها، لأنّ في الأفق رغبة أميركية إيرانية للحلّ النهائي، وإلا لما كان هناك من لزوم للطرفين في إجرائها، خاصة أنّ خروج ترامب من الاتفاق النووي أساء إلى صدقية أميركا، وبدّد ثقة الآخرين بها، وبجدية التزامها واحترامها للاتفاقيات.

إيران ذهبت إلى عُمان للتفاوض حول الملف النووي دون غيره، بعد أن كان ترامب يريد بحث مواضيع إضافية أخرى كملف الصواريخ البالستية، وسياسات طهران في المنطقة، والدعم الذي تقدّمه لفصائل المقاومة فيها، و»تهديده» لها. إنّ حصر المفاوضات بالملف النوويّ، يُعتبر إنجازاً لإيران، التي ظلّت منذ عام 2003، ترفض التفاوض مع الغرب في غير الملف النووي، والمقصود هو ملف الصواريخ الإيرانية الذي كان يُصرّ ترامب على إدخاله في أيّ مفاوضات مستقبلية مع إيران. هل في نية ترامب عام 2025 إحياء الاتفاق النووي بعد أن أجهضه عام 2018؟!

هل يعطي إيران ضمانة بعدم الإطاحة بأيّ اتفاق يوقعه معها، وعدم الانسحاب منه بمزاجية نافرة، كما انسحب من اتفاقيّة باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية؟! أتت المفاوضات الإيرانية ـ الأميركية في عُمان كي تنجح لا لتفشل، لأنّ رغبة الطرفين تصبّ في هذا الاتجاه، فيما العالم ينتظر صعود الدخان الأبيض. إنّ نجاح المفاوضات ستخدم مصالح واشنطن وطهران الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، والمالية بشكل كبير، وستؤسّس لمرحلة جديدة خصبة في علاقات إيران مع الغرب، وبالذات مع واشنطن، ودول المنطقة إلا «إسرائيل» التي تتمنّى فشل المفاوضات، وتعمل على تقويضها…!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى