
بدأت بالامس نقل الكلام الذي كتبه في مجلة “روزاليوسف” يشرح فيها شعوره عند وفاة امه، وهو مكتوب بطريقة فريدة من نوعها وغير تقليدية ..
وتوقفت عند دخوله إلى منزل أمه العظيمة “روزاليوسف” ..
البيت هادئ هدوءا غريباً ..
هدوء له رائحة !!
أول مرة أعرف أن للهدوء رائحة وأشمها !!
والذين يستقبلوني لا يبتسمون لي ..
لا أحد يكلمني ..
وفي البيت طبيب صديق جاء عفواً ..
نظرت إليه لعله يتكلم ، لكنه لم يقل شيئاً ..
سألته: هل رأيتها ؟؟
وأجابني وهو يشيح بوجهه عني ..
نعم الحالة خطيرة ..
هذا كل ما أستطيع قوله.
والقلب والنبض ..
هل كشفت عليها ؟
قال وهو يدير رأسه عني: ليس معي سماعة ..
لا أستطيع أن أسمعه !!
قلت في نفسي: سماعة ..
هل أحد في حاجة إلى سماعة ليسمع هذا القلب ..
كنت أسمعه وأنا في آخر الدنيا !!
وأخذت أروح وأغدو في البهو ..
وأحد أفراد العائلة يتعجل الطبيب المختص.
وأخيراً جاء ولم يمكث سوى دقيقتين في حجرتها ..
ونظرت في وجهه متسائلاً ، وخوفي يغلب تساؤلي.
وسمعت صوتاً لا أعرفه ..
صوتاً غريباً لم ألتق به من قبل ، صوتاً يقول: البقية في حياتك ..
وصرخت ..
من الذي يصرخ ؟؟
لا أدري ..
لكنني أحسست وكأن شفتي قد أنفجرت وانطلقت منها صرخة ..
البقية في حياتك ..
هذه الكلمة لا تقال لي !
لا أقبلها ..
أنني لا أرضى ببقية حياة ..
إما الحياة الكاملة ..
وإلا فلا أريد حياة ..
وهرعت الى حياتي ..
إنها راقدة فوق فراشها كما تعودت أن أراها ..
بشرتها في ثوب اللبن المخلوط بماء الورد ..
وهي تبتسم ..
أنني لا أتخيل ولا أبالغ ..
إنها تبتسم ..
إبتسامتها الصغيرة التي أعرفها جيداً ..
لقد كذبوا علي !
قولي لهم يا أمي إنهم كذبوا على إبنك !!
ردي علي يا حبيبتي ..
إنك تكرهين الكذب !
فاشخطي فيهم ..
وقولي لهم لا يكذبوا على إبنك ..
ولكنها تكتفي بالابتسام ولا تقول شيئاً ..
ودخل ناس وحاولوا أن يحملوني بعيداً عنهم ..
انتفضت فيهم صارخاً ، وهددت كل من يحاول الإقتراب مني ..
وخرجوا ..
وعدت إلى أمي ..
“ردي علي” ..
لعلك غاضبة مني وهذه طريقتك عندما تغصبين ..
لكن لماذا أنتي غاضبة .. ماذا فعلت ؟؟
وتنبهت إلى أنني أبكي ..
إنها لم تكن تحب ان تراني باكياً ..
لقد رأتني مرة باكياً منذ سنوات فضربتني وقالت لي كن رجلاً ..
وسقطت على ركبتي بجانب فراشها ..
إن هناك رجلاً آخر في نفسي بدأ يصدق أنها ماتت ..
وصوته يرتفع ..
ودخلوا مرة ثانية ليحملوني عنوة بعيداً عنها ..
ونظرت إليهم متوسلا ..
دقيقة واحدة من فضلكم ..
أمسكت باليد الكريمة الموضوعة بجانب الجسد الطاهر ..
وقبلتها ثم رفعتها إلى جبيني كما عودتها كلما ألتقينا ..
وكلما أفترقنا ..
لكنه اليوم الفراق الأبدي !!
محمد عبدالقدوس