
من قلب السجون المصرية، حيث تُختبر إنسانية الدولة كل يوم، لفظ الشاب علاء جمال أنفاسه الأخيرة، في زنزانة انفرادية ضيقة، بعيدًا عن أمه التي قطعت مئات الكيلومترات من المنيا فقط لتحتضنه بعد غياب.
لم يكن علاء مجرمًا ولا قاتلًا، بل كان واحدًا من آلاف المعتقلين السياسيين الذين تكدّست بهم الزنازين، ودُفنت معهم العدالة في هذا البلد المنهك، المكتظة زنازينه بأبناء الوطن من كافة الاتجاهات.
علاء، ابن التسعة والعشرين عامًا، شارك مع رفاقه في إضراب عن الطعام احتجاجًا على الإهمال الطبي، ووفاة زميلهم محمد حسن هلال، الذي قضى داخل نفس السجن نتيجة لتقاعس ممنهج عن العلاج والرعاية.
لكن صوت الاحتجاجات في سجون مصر لا يُقابل بالإصغاء، بل بالقمع والعقاب العنيف، الذي قد يودي بحياة إنسان.
قام علاء ورفاقه بالاعتراض المشروع، على موت زميلهم، ورفيق زنزانتهم، تغطيتهم لكاميرا الزنزانة الذي تراقب تحركاتهم وسكناتهم، لم تكن تمردًا عبثيًا، بل فعلًا رمزيًا من سجين يتشبث بما تبقى من كرامته.
لكن الرد كان عنيفًا.. حرمان من الزيارة، رغم أن أسرته انتظرت شهورًا لهذا اللقاء، وبعد أن هدد علاء بالانتحار احتجاجًا، سُمح له بالزيارة، لكنه لم ينل منها سوى لحظة مؤقتة من الفرح، أعقبها عقاب مزدوج.. منع دخول المتعلقات، وحبس انفرادي انتهى بالشنق.
ما حدث مع علاء ليس استثناءً، بل فصل جديد من مسلسل طويل من الانتهاكات داخل السجون المصرية،
بدر 3.. الذي قُدّم ذات يوم كنموذج للسجون “الحديثة”، تحول إلى رمز للبطش والانتقام والانهيار النفسي والجسدي لآلاف المعتقلين، حيث توثق التقارير الحقوقية التي تصدر تباعًا ما هو أسوأ.. تعذيب، منع من الزيارات، انقطاع عن العالم الخارجي، حرمان من العلاج، وقتل ببطء.
في لحظة فقدان علاء، يجب أن نقف ونسأل.. كم “علاء” سيموت بعد؟ كم من الأمهات ستغادر السجون وقلوبهن محطّمة لأنهن لم يتمكنّ من توديع أبنائهن؟ إلى متى يُستخدم الحبس كأداة لإسكات صوت الألم؟
فعلاء جمال، لم يكن رقمًا في ملف. كان شابًا يحلم، يتألم، ويشتاق. ومات وهو ينتظر حضن أمه.
لقد آن الأوان لفتح هذا الملف الإنساني والسياسي بكل شجاعة، ملف المعتقلين في مصر لم يعد قضية نخبوية أو حقوقية محصورة في أروقة المنظمات، إنها قضية وطن، وقضية ضمير.
الإفراج عن المعتقلين لم يعد مطلبًا معارضًا، بل ضرورة إنسانية. لم تعد المطالبة بالكرامة داخل الزنازين نوعًا من الترف، بل صرخة نجاة.
صمتنا سيقتل المزيد. وغضّ الطرف عن الجريمة يجعلنا شركاء فيها، ولو بالصمت.
لذلك يجب أن تدوى صرخاتنا، نطالب بإطلاق سراح من تبقى، حتى لا تتكرر تلك النماذج ونفقد شباباً في أعمار الزهور، حقهم في الحياة أن يعيشوا كراماً.
أطلقوا سراح من حمل حلمًا بوطنٍ حر.
أطلقوا سراح الذين ذبلت أعينهم في العتمة، وأُغلقت في وجوههم الأبواب والنوافذ.
أطلقوا سراح من ينتظرون فرصة للعودة إلى الحياة، إلى أهلهم، إلى أطفالهم، إلى أحلامهم التي لم تُكمل الطريق.
المعتقلون ليسوا أعداء الدولة، بل هم أبناء هذا الوطن، دُفعوا إلى السجون لأنهم اختلفوا، أو لأنهم تكلموا، لكن الوطن لا يقوم على الصمت، بل على التنوع، ولا يُبنى بالقمع، بل بالحرية والعدل.
لقد آن الأوان.. آن الأوان لتفتحوا الأبواب، وتكسروا القيود، وتعيدوا الحياة لمن سُلبت منهم أعمارهم ظلمًا. فالسجون ليست حلاً، والحرية ليست تهديدًا.
أطلقوا سراح من تبقى قبل أن تموت الضمائر.