
من المرجّح أن يشهد عالم ترامب تفاقمًا في الانقسامات المجتمعية والدولية القائمة على أسس الهوية، مدفوعة بأجندات سياسية محددة، وبيئة عالمية تزداد تنافسية وتفتقر إلى اليقين، وتعاني من تفاقم الاضطرابات الاقتصادية.
على الصعيد المحلي الأميركي، تشير العديد من المؤشرات إلى أن إدارة متوافقة مع ترامب ستولي الأولوية لرؤية معينة للهوية الأميركية، ترتكز على القيم التقليدية المحافظة، وترفض ما تسميه “أيديولوجيات اليقظة” أو الأفكار التقدمية. من شأن ذلك أن يؤدي إلى تصاعد الصدامات الثقافية، مع سعي الإدارة بنشاط إلى إلغاء سياسات وإزالة المصطلحات المتعلقة بالتنوع والمساواة والإدماج من القواعد واللوائح الفيدرالية. ووفقًا لهذا التصور، لم يعد يُنظر إلى التنوع والمهاجرين كعناصر قوة لأميركا. سيؤدي هذا إلى تكثيف النقاشات حول الهوية الوطنية والمواطنة، خاصة في سياق مكافحة الهجرة والتغيرات الديموغرافية.
من المتوقّع أن تتفاقم التوترات الاجتماعية بين المؤيدين للرؤية المحافظة للإدارة وبين المدافعين عن هويات أكثر استيعابًا وتنوعًا. قد يؤدي الانتشار السريع للمعلومات المضللة والرسائل المُخططة عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى تعميق هذه الانقسامات، وتقليل فرص التوصل إلى حلول وسط. يشير البعض إلى أن أكاذيب ترامب التي لا تنتهي هدفها خلق هوية متماسكة بين أتباعه ومناصريه في مواجهة الآخرين.
يُضاف إلى ذلك التحديات التي تواجه المؤسسات القائمة، حيث تسعى إدارة ترامب إلى إعادة تشكيلها بما يتوافق مع أولوياتها الأيديولوجية، مما قد يفضي إلى مزيد من انعدام الثقة والتفتت على أسس الهوية والمعتقد. ومن الأمثلة على ذلك الجهود المبذولة لإعادة تعريف مفاهيم مثل “الجندر” و”العرق” في الأطر القانونية والسياسية وعمل الإدارات الفيدرالية.
هكذا، من المرجّح أن تشهد سياسات ترامب المحلية صعودًا لقضايا الهوية إلى الواجهة، مما قد يزيد من الاستقطاب والتوتر والصراع، مع تأكيد مجموعات وقوى أميركية على هوياتها وتنافسها على النفوذ. وقد يكون التركيز على رؤية محددة ومحافظة للهوية هو المحرك الرئيسي لهذه الديناميكيات.
إن تأثير المعارك السياسية الداخلية التي يخوضها ترامب حول صراعات الهوية على السياسة على المدى الطويل، سيعتمد إلى حد كبير على نوع المعارضة التي ستنشأ ردًّا على ولاية ترامب الثانية: هل ستكون معارضة قادرة على تقديم رؤية مضادة للتحالف “القومي الأبيض” الذي يعتمد عليه ترامب؟ وهل ستركز على لغة التعددية الثقافية والتنوع في خطابها على النمط السائد داخل الحزب الديمقراطي في الفترة الماضية؟ أم ستكون معارضة مختلفة، تحاول سحب البساط من تحت أجندة ترامب من خلال طرح رؤية تتلاءم مع الحس الشعبوي لمؤيديه وتجذبهم بعيدًا عنه؟
القضية الكبرى، في تقييم هشام سلام – أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد الأميركية – هي ما إذا كان اليسار في الولايات المتحدة قادرًا على تجديد نفسه، ومعالجة مظالم الطبقة العاملة في أميركا، وإعادتها كعنصر أساسي في تحالفه؟ القضية الحقيقية إذن، في تقديره، هي ما إذا كان اليسار سينجح في تغيير مسار الصراع السياسي لإعادة الطبقية الاجتماعية إلى السياسة، أم أنه سيواصل التعامل مع ترامب وفقًا لنهجه الخاص: نهج سياسات الهوية والحروب الثقافية؟
حروب الهوية في النظام الدولي
يُرجَّح أن يكون للنظام الدولي الذي تقترحه إدارة ترامب حضورٌ قويٌّ، وربما مُزعزعٌ للأمن، في صراعات الهوية والقومية الدينية. وينبع هذا التأثير من عدة خصائص رئيسية وتوجهات سياسية، أهمها:
1- إعطاء الأولوية للسيادة الوطنية: يؤكد نهج ترامب حتى الآن على ضرورة التعامل مع العلاقات التجارية والتحالفات الاستراتيجية والمنظمات الدولية كأدوات لتعزيز المصالح الأمريكية، مع خيار الانسحاب أو فض الشراكات أو تهديد مصالح الحلفاء قبل الخصوم إذا فشلت في القيام بذلك.
إن إعطاء الأولوية للسيادة الوطنية والنهج الأحادي قد يؤدي إلى إضعاف التعددية العالمية، وتقليل التركيز على المعايير والمؤسسات الدولية المصممة لإدارة الصراعات القائمة على الهوية أو حماية حقوق الأقليات، ومن الممكن أن يشجع هذا الدول على متابعة أجنداتها القومية، بما في ذلك تلك المتجذرة في الهوية الدينية، مع خوف أقل من العواقب الدولية.
2- تحدي الأيديولوجيات “التقدمية” وتعزيز مجموعة محددة من القيم: يدعو منفيستو حكم ترامب، وأقصد وثيقة “تفويض القيادة: الوعد المحافظ”، بقوة ضد الترويج لأيديولوجية النوع الاجتماعي، والإجهاض، والسياسات الاجتماعية ذات الصلة في الشؤون الدولية، ويؤكد على التركيز على “حقوق الإنسان للرجل الأبيض الذكر” التي تستمد من الأسرة والكنيسة والوطن. قد يُفاقم هذا الموقف التوترات الدولية مع الدول والمنظمات التي تتبنى وجهات نظر مختلفة حول هذه القضايا، مما قد يُؤطّر صراعات الهوية على هذه الخطوط الأيديولوجية. إن المقاومة لما يُنظر إليه على أنه “حروب ثقافية أمريكية” تُفرض دوليًا قد تؤدي إلى تأجيج الاستياء وتعزيز المشاعر القومية في بلدان أخرى.
3- التركيز على التنافس بين القوى العظمى وإعادة تعريف التحالفات: إن نهج إدارة ترامب، كما يوحي به التركيز على مواجهة “العدوان” الاقتصادي الصيني ومن الدول التي تتفوق على أمريكا في ميزانها التجاري، وإعادة تقييم التحالفات المختلفة، من شأنه أن يُعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي، مُؤثرًا على كيفية تبلور صراعات الهوية والقومية الدينية ضمن مناطق نفوذ مختلفة. قد تُؤدي الحاجة إلى مواجهة الخصوم إلى مشاركة انتقائية في القضايا المتعلقة بالهوية، مع إعطاء الأولوية للمصالح الاستراتيجية على اهتمامات حقوق الإنسان المستمرة.
4- سياسات الهوية المحلية تُشكّل السياسة الخارجية: كما ناقشنا سابقًا، فمن المرجح أن يشهد عالم ترامب تفاقمًا في انقسامات الهوية المحلية، إذ يركز على استعادة رؤية محددة للهوية الأمريكية، وقد يُترجم ذلك إلى سياسة خارجية تُفضّل الدول أو الجماعات التي تتبنى هذه القيم – مثل ما جرى من دعم لليمين الأوروبي – وقد تنظر بعين الريبة أو المعارضة إلى من يختلفون معها في التوجهات الهوياتية. وهذا من شأنه أن يُرسّخ منزَعًا هويّاتيًا محليًا قويًا في فهم ومعالجة صراعات الهوية الدولية.
5- إضعاف المعايير الدولية الخاصة بحماية حقوق الأقليات والمهمشين: إن المعايير المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية للإنسان، وحماية اللاجئين، وحقوق المرأة، وحماية مجتمع الميم، مُعرضة للخطر. إن إدارة ترامب، مع توجهاتها في السياسة الداخلية وتشككها في الاتفاقيات الدولية التي تعزز هذه الحقوق، والانسحاب من المنظمات الدولية كمنظمة الصحة العالمية والمجلس الدولي لحقوق الإنسان، وإلغاء المنظمات الوطنية الداعمة لهذه الحقوق كالوكالة الأمريكية للتنمية… من المرجح أن يُسهم في هذا الضعف، وقد يُهيئ هذا بيئةً تُقلل فيها الرقابة الدولية على الأجندات القومية الدينية التي قد تنتهك حقوق الأقليات والضعفاء.
الخلاصة: من المرجح أن يكون للنظام الدولي الذي تتصوره إدارة ترامب، والذي يتميز بتركيز قوي على السيادة الوطنية، ونهج انتقائي في التعامل الدولي، وتركيز على تنافس القوى العظمى من خلال منظور أيديولوجي محدد متلبّس بأبعاد اقتصادية وجيوسياسية، وإضعاف محتمل لعالمية معايير حقوق الإنسان… تأثير كبير ومتفاقم على صراعات الهوية والقومية الدينية عالميًا. قد يُعيد هذا النهج تشكيل البيئة الدولية بطرق تُشجع بعض الأجندات القومية والدينية، وتُضعف قدرة المجتمع الدولي أو إرادته على معالجة الصراعات الناتجة بفعالية.
دبلوماسية الصفقات وحروب الهوية
لكن هل نهج ترامب الذي يقوم على الصفقات من شأنه أن يخفف من حروب الهوية؟
لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن توجهات ترامب الاقتصادية وتركيزه على الصفقات في التعاملات الدولية سيؤديان إلى تراجع حروب الهوية على المستوى الدولي. بل تشير بعض النقاشات إلى عكس ذلك، إذ قد تُفاقم سياساته ورؤيته للعالم صراعات الهوية من جهات عدة:
1- القومية الاقتصادية: تتميّز القومية الاقتصادية التي تبناها ترامب بالحماية وإعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية الأمريكية. تتشابك هذه المصالح مع مشاعر قومية غالبًا ما تحمل دلالات ثقافية ذات نزعة هوياتية. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز الهوية الوطنية داخل المجموعة، وربما خلق تمييزات أكثر وضوحًا عن المجموعات الخارجية (دول أخرى أو منافسين اقتصاديين)، مما قد يُفضي إلى تأجيج التوترات القائمة على الهوية بدلًا من تخفيفها.
أعطى ترامب الأولوية للصفقات الثنائية القائمة على الميزة الوطنية المتصوّرة، وأبدى شكوكًا تجاه المؤسسات والتحالفات متعددة الأطراف القائمة على القيم المشتركة. هذا التركيز على المصالح الوطنية الضيقة على حساب الأطر الأوسع القائمة على القيم قد يُقلل من إعطاء الأولوية لمعالجة الصراعات القائمة على الهوية، والتي لا تؤثر بشكل مباشر على الأهداف الاقتصادية أو الاستراتيجية الآنية والمباشرة للولايات المتحدة.
2- الإضعاف المحتمل للقيم العالمية وحقوق الإنسان: قد يأتي التركيز على الصفقات التجارية والمصلحة الوطنية على حساب تعزيز القيم العالمية وحقوق الإنسان. وبما أن حروب الهوية غالبًا ما تنطوي على انتهاكات لهذه الحقوق، فإن تقليل التركيز عليها من جانب قوة عالمية كبرى كالولايات المتحدة قد يخلق بيئة لا تُعالج فيها مثل هذه الصراعات بفعالية، أو قد تتصاعد وتتفاقم.
3- تأطير “الدولة الحضارية”: ناقشتُ في مقال سابق هجوم “الدولة الحضارية” التي تؤكد على هويتها الثقافية والتاريخية الفريدة. يتوافق خطاب ترمب في بعض جوانبه، مثل وصفه بأنه “الحارس الشخصي للحضارة الغربية”، مع هذا الإطار، الذي يمكن أن يرسم حدودًا بين الكتل الحضارية أو الهوياتية المختلفة بدلًا من تعزيز تراجع الانقسامات القائمة على الهوية.
المشكل مع تأطير “دولة الحضارة” أنه يُنظر إلى الدول على أنها متنافسة في لعبة محصلتها صفر، بدلًا من كونها أعضاء في مجتمع عالمي مرتبط بقيم مشتركة تتجاوز اختلافات الهوية.
4- التركيز على المنافسة بين القوى العظمى: يُركّز نهج ترامب على المنافسة بين القوى العظمى، وخاصة مع الصين. ورغم أن هذه المنافسة لها أبعاد استراتيجية واقتصادية، فإنها يمكن أن تُصاغ أيضًا في إطار إيديولوجيات مختلفة، وحتى قيم حضارية متصادمة، مما قد يؤدي إلى فرض الهوية على التنافسات الاقتصادية والجيوسياسية.
إن تركيز ترامب على الصفقات والمصالح الاقتصادية الوطنية قد يُغيّر طبيعة التفاعل الدولي، إلا أن هذا لن يؤدي إلى تراجع حروب الهوية، بل إن قوميته الاقتصادية ونظرته العالمية القائمة على الصفقات، إلى جانب احتمال إهماله للقيم العالمية وحقوق الإنسان، قد يُسهما، دون قصد، في استمرار أو حتى تفاقم الصراعات القائمة على الهوية على المستوى الدولي، من خلال إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية الضيقة، وربما مفاقمة الانقسامات بين مختلف الجماعات الهوياتية.
لا يعني احتمالية تصاعد هذا المنظور بالضرورة أن كل دعم من ترامب وإدارته لإسرائيل مدفوعٌ بسياسات الهوية فقط، فالعوامل الاستراتيجية والتاريخية والجيوسياسية الأخرى تلعب أيضًا أدوارًا مهمة. ومع ذلك، وبالنظر إلى إطار حروب الهوية، فإن دعم ترامب القوي والواضح، في كثير من الأحيان، لإسرائيل يرتبط ارتباطًا واضحًا بإعطاء الأولوية لهويات دينية وقومية معينة، ويتماشى مع التوجهات القومية اليمينية الأوسع، ويضع الولايات المتحدة بقوة في جانب واحد من صراع هوية طويل الأمد في الشرق الأوسط.
إن هذا النهج قد يؤدي، عن قصد أو عن غير قصد، إلى تفاقم الأبعاد المتعلقة بالهوية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويساهم في المشهد الأوسع للحروب الهوياتية الدولية.
لكن السؤال الذي يحتاج متابعة: هل من مصلحتنا — والنون هنا عائدة على الفلسطينيين وداعميهم من العرب والمسلمين — أن يتم اختزال الصراع مع الصهاينة في إطار حروب الهوية؟ حتى لو أرادت قطاعات من اليمين المتطرف في إسرائيل وأمريكا والعالم ذلك؟
المصدر: فكر تاني