
تحل اليوم ذكرى ميلاد الإمام الجليل الشيخ محمد متولي الشعراوي، أحد أبرز أعلام الدعوة والفكر الإسلامي في القرن العشرين، وواحد من أعظم من فسروا كتاب الله بأسلوب بسيط يصل إلى القلوب والعقول.
وُلد الشيخ الشعراوي في 15 أبريل عام 1911 في قرية دقادوس بمحافظة الدقهلية، وترك أثراً لا يُمحى في وجدان الأمة الإسلامية حتى بعد رحيله في 17 يونيو عام 1998.
أستعيد اليوم تفاصيل ذلك اليوم الحار من شهر يونيو، حين كنت في زيارة للشيخ صالح أبو خليل في كفر النحال بمدينة الزقازيق، حين بلغني خبر وفاته.
وبرغم حرارة الشمس اللاهبة، لم أتردد في التحرك من الزقازيق إلى قرية دقادوس، حيث وُوري جسده الطاهر الثرى في مجمع الشعراوي الإسلامي، في وداع مهيب لإمام الدعاة، الذي بقيت كلماته تتردد في أذن الزمان، شاهدة على علمه وإخلاصه.
وأتشرف أنني حظيت بلقاء فضيلة الإمام محمد متولي الشعراوي قبل وفاته، في استراحة خاصة له بمنطقة الحسين في القاهرة، حيث قدمني إليه فضيلة الشيخ إسماعيل صادق العدوي، الذي شرفني بمعرفته.
كان اللقاء مفعمًا بالروحانية والهيبة، وطلبت من الشيخ الشعراوي أن أنهل من علمه، فكان كريماً كعادته، وأهداني مجموعة من كتبه في تفسير القرآن الكريم.
دارت بيننا أحاديث عميقة عن التصوف، إذ كنت في تلك المرحلة من حياتي منغمسًا في طريق التصوف، ولا زلت حتى اليوم عاشقًا له، ومحبًا لنهج الشيخ الشعراوي والشيخ إسماعيل صادق العدوي.
كما تأثرت أيضًا بخطب فارس المنابر، فضيلة الشيخ عبدالحميد كشك، رغم أن مدرسته الخطابية تختلف عن مدرستي الفكرية، إلا أنني كثيرًا ما أرتدي في بعض مقالاتي عباءته وأستلهم روحه النقدية الصادقة.
فالشعب المصري، كما كان يقول الشيخ الشعراوي، ليس من السهل خداعه، ووعيه عصي على التزييف، عمرهم ما ينخدعوا في إنسان.
تطايرت الأقنعة يوم وُلد الشعراوي. نعم، لا أبالغ حين أقول إن هذا الرجل لم يكن مجرد شيخ أو داعية أو مفسر، بل كان صفعة مدوية على وجوه المنافقين، وزلزالًا فكريًا ضرب عمق كل من ظن أن الدين حكر على النخبة أو محفوظ في خزائن الفقهاء.
كل من استكثر على الناس فهم القرآن، جاء الشعراوي ليسحب البساط من تحت أقدامهم بجملة بسيطة، بلهجة عامية، بعبارة “ربنا مش هيظلمك أبدًا”، ليُحدث بها رجّة في وعي أمة.
احترقت أوراق كثيرة حين تكلّم الشعراوي. احترقت أوراق الذين أرادوا للدين أن يظل سرًا لا يباح، سلاحًا لا يُسلّم، أداةً للسيطرة لا للهداية.
حين جلس أمام الكاميرا، لم يكن يتلو تفسيرا، بل كان يخلع الرهبة الزائفة عن النص، ويُعيد القرآن إلى موقعه الحقيقي: كتاب حياة.
ليس علمًا في الرفوف، بل حياة تنبض، تقفز من بين السطور إلى البيوت، والمقاهي، والمزارع، والورش، وأكشاك السجائر.
أبهر الملايين لأنّه لم يطلب الانبهار. صعق النخبة لأنّه لم يتوسّل رضاهم. أذهلهم لأنه لم يُجامل أحدًا في الحق.
حتى أولئك الذين تخفّوا في جلود المثقفين والسياسيين، وادّعوا امتلاك مفاتيح العقل، وجدوا أنفسهم عاجزين أمام عفوية هذا الشيخ. رجل خرج من عمق الريف المصري، ليهزّ منابر الإعلام، ويُعيد تعريف “من هو المثقف الحقيقي”.
فضح المنظومة كلها دون أن يعلن حربًا. فجر التناقضات دون أن يحمل قنبلة. قال للناس: فكروا. فكروا ولو خالفتموني.
قالها وابتسم، ولم يلوّح بتكفير، ولم يُشهر سيفًا، ولم يتبنَ أيديولوجيا، بل أصرّ على ما هو أخطر: أن يكون صوت الضمير، لا صوت السلطة، لا صوت الجماعة، لا صوت السوق.
زلزل النفاق الديني والسياسي. حين وقف أمام الكاميرا، لم يرمِ الناس بالعذاب، بل رمى على قلوبهم طمأنينة.
لم يُرهبهم، بل حررهم من رهبة الزيف، ومن قداسة الزعامات المصطنعة. لم يخشَ من غضب الأنظمة، لأنه ببساطة لم يطلب شيئًا منها. كان حرًّا، والمجتمع خائف. كان واثقًا، والسلطة مرتعشة.
كشف خواء البرامج الدينية التي تدور في فلك النمط والتكرار. لم يكن بحاجة لملصقات ولا دعايات، ولا حتى حملات انتخابية. تكلّم، فاستمع الناس. أشار، ففهموا. لم يضرب الناس بالعصا، بل حرّك قلوبهم بالكلمة. أخرجهم من متاهات التكفير إلى رحابة التدبّر، ومن فوضى الفتاوى إلى صفاء المعنى.
شوّهت بعض الألسنة سيرته بعد رحيله، فقط لأنّه ظل أكبر من أن يُهضم، وأعمق من أن يُمتلك. حاولوا تحميله مسؤولية كل فشلهم، كل انحرافهم، كل كساد أفكارهم، فقط لأنه لم يُسايرهم. أرادوا شيخًا ناعمًا، دبلوماسيًا، مرنًا حتى الذوبان، لكنه اختار أن يكون صلبًا كالصخر، ساطعًا كالحقيقة، لا يُدارى.
انفجرت الطمأنينة في صدور الناس حين تكلّم. لم يعد الدين مرعبًا، ولا القرآن معقّدًا، ولا الجنة مستحيلة. استعاد الناس إيمانهم بالبساطة، وبأن الله ليس حكرًا على الفقهاء، ولا على المعممين، بل هو رب الناس، كل الناس. جعل القرآن مرآة، لا حاجزًا. مصباحًا، لا مقصلة.
حرق حدود “الداعية النمطي” وجعلهم يرتعدون من مجرد ذكر اسمه. كل من جاء بعده، سقط في امتحان المقارنة. لأنه ببساطة لم يكن نسخة من أحد، بل كان الأصل. لم يتسوّل جمهورًا، بل جاءه الجمهور يركض. لم يُصادم خصومه، بل تجاهلهم حتى ماتوا غيظًا. لم يطلب سلطة، بل أسقطها حين صمت.
قضى عمره يربّي العقول، لا يكمّمها. يوقظ القلوب، لا يخدرها. يتلو الآية، ثم يغوص فيها كما يغوص الغواص في البحر لا لينقل صدفة، بل ليخرج لؤلؤة. لم يكتفِ بالنص، بل جاب المعنى، واختزل المسافة بين القرآن والإنسان. من استراح لخطابه، فاز. ومن تكلّف وصمه، انكشفت عورته.
فضح عجزنا. نعم، الشعراوي فضحنا جميعًا، حين كشف كم كنا نُعاني من انفصال بين الدين والحياة. كم كنا نُصلي بأجساد خاوية، ونقرأ بعيون غافلة، ونفتي بقلوب باردة. جاء ليعيدنا إلى أول الطريق، حيث تسكن الحقيقة، ويُخلّصنا من جمود الخطاب، وجمود الإحساس.
وأنا أكتب اليوم في ذكراه، لا أرثيه. بل أُعاتب جيلًا خذله. جيلًا استبدل دفء صوته ببرودة “ترند”، وعمق عباراته بلغة خشبية لا تُشبه الناس. الشعراوي لم يمت. الشعراوي هو الحياة التي نحتاج أن نعود إليها، لا لنُقلده، بل لنستعيد الروح التي بثّها في عروق أمة.
لم يكن إمام الدعاة فحسب، بل كان شهقة وعي، ونفحة صدق، وصاعقة نور. ولو أنصفناه، لما احتفلنا بميلاده فقط، بل جعلنا من كل يوم تمرّ فيه دعوة لليقظة، وللعودة إلى الذات.
والآن، اسأل نفسك: ماذا فعلت بعد الشعراوي؟ هل عرفت القرآن كما كان يُحب أن نعرفه؟ أم ما زلت تتسكع على أطلال جُمَل دون روح؟ تلك هي المساءلة التي تليق بذكراه.