117 طبيبًا يستقيلون من جامعة الإسكندرية.. من يبقى لمعالجة المصريين بعد تهجير الكفاءات؟

في مشهد يعكس عمق الأزمة التي يعيشها القطاع الطبي في مصر، كشف أحد أساتذة كلية الطب بجامعة الإسكندرية عن تقديم 117 طبيبًا استقالاتهم من العمل بالمستشفيات الجامعية ومعهد البحوث الطبية التابعين للجامعة. ويأتي ذلك في وقت أعلنت فيه الجامعة عن جلسة علنية ستُعقد يوم السبت 26 أبريل الجاري لتعيين أطباء امتياز وحديثي التخرج لشغل هذه الوظائف الشاغرة.
لفهم خلفيات هذا النزيف الطبي الخطير، لا بد من الإشارة إلى نظام العمل داخل المستشفيات الجامعية، والتي تعتمد بشكل كبير على الأطباء المقيمين أو “النواب”، وهم الأطباء المسؤولون عن استقبال ومتابعة الحالات وتقديم الرعاية اليومية، إلى جانب التواصل مع الأخصائيين عند الحاجة.
الوظيفة الجامعية كانت في السابق حلمًا للأطباء المتفوقين، إذ تتيح لهم فرصًا للترقي الأكاديمي، بدءًا من التعيين كمعيدين، ثم مدرسين، فأساتذة. وكان توزيع هذه الوظائف يتم بناءً على الترتيب العام للطلاب المتخرجين، ما منحها قدرًا من الهيبة والامتياز.
إلا أن الواقع تغيّر بشكل جذري. فقد أدت عوامل عدة، منها تدهور البنية التحتية للمستشفيات الجامعية، والضغط الهائل الناتج عن فشل مستشفيات وزارة الصحة، وسوء المعاملة الإدارية، والأجور الزهيدة التي لا تتناسب مع العمل الشاق الذي يصل أحيانًا إلى مئة ساعة أسبوعيًا، إلى تحويل هذه الفرصة الذهبية إلى عبء ثقيل يدفع الأطباء إما إلى رفض الوظيفة من الأساس أو إلى تقديم استقالاتهم في غضون أسابيع.
هؤلاء الأطباء – وغالبيتهم من المتفوقين – يتجهون إلى الهجرة فورًا بعد اجتياز اختبارات المعادلة، ليجدوا فرصًا أفضل في بريطانيا، وأستراليا، وألمانيا، وتركيا، والخليج العربي، وغيرها من الدول التي تقدر قيمة الأطباء وتمنحهم ما يستحقونه.
الجامعة، في بيانها الرسمي، نفت وجود “أزمة” واعتبرت الأمر ضمن “الخيارات الشخصية للأطباء” وفقًا للوائح والقوانين، متجاهلة ما تعكسه الأرقام من واقع مرير وحقيقة لا يمكن إنكارها.
الكرامة قبل المال: نزيف لا يتوقف
الأزمة لا تقتصر على جامعة الإسكندرية. بل هي جزء من ظاهرة متفاقمة في مصر، حيث لا يعمل داخل البلاد سوى 39٪ فقط من إجمالي 212 ألف طبيب مسجلين لدى النقابة، والبقية هاجروا بحثًا عن ظروف أفضل.
ورغم ما يُشاع عن أن سبب الهجرة هو الراتب، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا. فالطبيب الذي يتقاضى 7 آلاف جنيه شهريًا، بات يخصص نصف هذا المبلغ فقط للمواصلات بعد رفع الدعم عن الوقود. والأسوأ من ذلك أن بيئة العمل غير إنسانية، تتسم بالإهانة وسوء المعاملة، والضغط النفسي، وانعدام أي شكل من أشكال التقدير المهني أو الحماية.
هذه البيئة السامة حوّلت المستشفيات إلى مقبرة للأطباء، حيث تصاعدت أعداد الوفيات بين الشباب بسبب الإنهاك البدني والنفسي، في ظل صمت رسمي مريب.
بدلًا من تفهم هذه الأزمة، يخرج علينا بعض النواب والمسؤولين بتصريحات متعجرفة، يطالبون فيها الأطباء بـ”رد الجميل” للدولة التي “أنفقت على تعليمهم”، متناسين أن الدولة نفسها تخلّت عن مسؤوليتها في الإنفاق على التعليم، تاركة الأسر تتحمّل الكلفة كاملة.
تهديد صريح للأمن القومي
ما يحدث الآن هو تهديد مباشر للأمن القومي المصري، فالمجتمع الذي لا يجد فيه المواطن طبيبًا أو ممرضًا أو فنيًا مؤهلاً هو مجتمع عاجز عن الحياة، فضلًا عن البناء أو المواجهة في وقت الأزمات.
حتى الأغنياء الذين يظنون أن بإمكانهم الهرب للعلاج خارج البلاد، قد لا يتمكنون من ذلك في الظروف الطارئة. والمأساة أن النظام الذي يبذر الأموال في بناء القصور والمشروعات الاستعراضية، لا يجد مالًا لتحسين أوضاع الأطباء والمعلمين والباحثين.
الأطباء لا يهاجرون فقط بحثًا عن المال، بل يفرون من الإهانة، والتهديد، وانعدام الأمان. يفرون من وطن لم يعُد يحميهم ولا يقدّر رسالتهم. وفي النهاية، سيدفع المجتمع كله ثمن هذه السياسات العمياء، حيث لا يجد أبناؤه من يعالجهم، ولا من يُنقذ حياتهم في لحظات الخطر.