
ما حدث في مدينة النجيلة بمحافظة مرسى مطروح نهاية الأسبوع الماضي، يجب أن يكون جرس إنذار يستدعي من وزارة الداخلية وقطاع الأمن العام بوصفهما الهيئة الرسمية المناط بها تنفيذ القانون، وهو الأمر الذي يتطلب منهما الالتزام بالقانون لا الخروج عليه وانتهاكه، على النحو الذي حدث باحتجاز 24 سيدة، ثم قتل مراهقين دون العشرين بعد احتجازهما بترتيب مع شيوخ قبيلة القطعان، لإجبار متهمين بقتل أمناء شرطة هاربين على تسليم نفسيهما.
إن الحادثة وملابساتها وتداعياتها موضع تحقيق من قبل النيابة العامة، وتجري اتصالات على مستوى رفيع بين المخابرات الحربية والقيادات المحلية في محافظة مرسى مطروح من ناحية، وبين شيوخ القبائل في النجيلة وفي المحافظة من ناحية أخرى، لاحتواء التوتر الناجم عن الحادثة وقرار مجلس القبائل والعائلات بوقف التعامل مع وزارة الداخلية وقسم الشرطة في النجيلة، لا شك في أن التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في البلاغات الرسمية المقدمة من نقيب المحامين السابق ومحامي أسر الشابين، ستأخذ في الاعتبار شهادة مواطنين من النجيلة في ملابسات مقتل الشابين وسيشمل سلوك أفراد الشرطة واحتجازهم سيدات، ثم مقتل شابين جرى تسليمهم للشرطة لحين تسليم المتهمين الرئيسيين. وفي كل الأحوال، يتعين انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات والاتصالات لتحقيق العدالة وتنفيذ القانون.
لكن ثمة ملاحظات يجب طرحها للنقاش العام، وإجراء تحقيق أوسع قد يكون مقدمة للإصلاح المنشود لجهاز الشرطة والمطروح على جدول الأعمال الوطني منذ عام 2011، وهو أمر لا يمكن التقاعس عنه أو الالتفاف عليه، لترسيخ مبدأ سيادة القانون، الذي يعد ركيزة أساسية لاستقرار العلاقات بين الدولة والمجتمع وتحقيق العدالة.
ولا تقتصر الملاحظات على الحادثة وإنما على الأساليب غير القانونية التي قد يتورط فيها بعض ضباط الشرطة لمعالجة أخطاء أخرى تتصل بمسألة تنفيذ الأحكام، وأساليب البحث والتحري واللجوء إلى احتجاز أفراد من أسر متهمين مطلوبين كأسلوب للضغط عليهم وما قد يترتب على هذا الأسلوب من انتهاكات وتجاوزات، يتعين وضع خطط وبرامج للتصدي لها، كي لا يدفع أبرياء حياتهم وحريتهم ثمناً لأفعال غير مسؤولين عنها.
الأمن العام ودور المجتمع
ثمة ملاحظة أساسية تتعلق بخلل أصاب عمل الشرطة في ضبط الأمن العام، بسبب التركيز لعقود طويلة على الأمن السياسي، وإهمال الأمن العام، والاعتماد لعقود على حالة الطوارئ سيئة السمعة التي كانت مدخلاَ لتجاوزات في حقوق المواطنين التي يكفلها الدستور والقانون، والتي كان يجري تبريرها بأن الإجراءات القانونية تجعل يد أفراد الشرطة مقيدة في مواجهة المجرمين والخارجين على القانون، الأمر الذي أدى إلى ترسيخ مفاهيم خاطئة عن علاقة الشرطة بالمجتمع، ولم يصحح الحرص الذي أبداه المواطنون في أعقاب أحداث 25 يناير 2011، على ضرورة عودة الشرطة للقيام بمهمتها الأساسية في حفظ الأمن ومكافحة الجريمة بكل صورها والتصدي للخارجين على القانون وما يشكلونه من خطر على أمن المواطنين والنظام العام ومساعدتها في ذلك على تصحيح أي من المفاهيم أو مراجعة أساليب أفراد الشرطة وأجهزة الأمن في التعامل مع المواطنين وترسيخ فكرة أن أفراد هذه الأجهزة فوق القانون ولا يجوز محاسبتهم على انتهاكاتهم وتجاوزاتهم في حق المواطنين ووضع العراقيل أمام من يحاول اثبات هذه الانتهاكات، وتهديد وزارة الداخلية لبعض مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإخبارية التي نشرت شهادة شهود عيان من أبناء النجيلة، مثال واضح على ما نقول، ولا يساهم في بناء الثقة بين الشرطة ووزارة الداخلية والمواطنين، بل يعمقها، ويؤدي إلى تداعيات خطيرة وكارثية على السلم الاجتماعي والأمن العام، في وقت غابت فيه بديهيات كانت مرعية من أفراد الشرطة.
من الملاحظ، أن محاولة إصلاح وزارة الداخلية والشرطة في أعقاب ثورة المصريين في يناير 2011، حرمت الضباط الجدد في الشرطة من خبرات كانت لدى القيادات السابقة والكوادر الوسيطة الذين أخرجوا من الخدمة، في مقدمة هذه الخبرات فهم الواقع الاجتماعي الذي يتحرك فيه أفراد الشرطة وتعقيداته وحساسيته، مع الحرص في الوقت نفسه على تنفيذ القانون وتحقيق العدالة، وحرمتهم كذلك من خبرات مهمة في أساليب التحري وجمع المعلومات ووضع خطط العمليات والتحرك المحسوب لتقليل الخسائر وإنجاز المهام بنجاح. وهي بديهيات لم يراعِها أفراد الشرطة في النجيلة، بدءا بالعملية الفاشلة لمحاولة ضبط هارب من تنفيذ الأحكام، والتي أسفرت عن مقتل ثلاثة من أفرادها في اشتباك مسلح، وانتهاء بأسلوبهم لمعالجة الخطأ بارتكاب سلسلة من الأخطاء الأكبر التي لم تلتفت إلى ما قد تحدثه تصرفات أفرادها من تأثيرات في مجتمع قبلي تحكمه أعراف خاصة ومختلفة، رغم التعاون الذي أبداه شيوخ العائلات في البلدة لمعالجة الأمر واحتواء التوتر.
ويبدو أن الأحداث جاءت على خلفية من ممارسات كان سلوك الشرطة فيها يتجاوز القانون في محاولة لممارسة الضغوط على السكان لإجبارهم على بيع ممتلكاتهم أو التنازل عنها دون تعويضات كافية لصالح جهات استثمارية، وتشير تقارير عن هذه الممارسات إلى التنكيل الذي يتعرض له أصحاب هذه الممتلكات وأسرهم في غياب كامل للقانون، وترهيب لمن يشير إلى هذه الانتهاكات ويطالب بمحاسبة المسؤولين عنها والمتورطين فيها، إلى حد أصبحت معه هذه التجاوزات مألوفة وشاملة. وساعد على ذلك سياسة الإنكار التي تلجأ إليها الجهات المسؤولة دون فتح تحقيق ومحاسبة المتورطين فيها وفي ظل غياب المساءلة الفعالة للجهات الأمنية. ومكمن الخطورة هنا أن هذه المسألة لا تقتصر فقط على القضايا السياسية وإنما امتدت للقضايا الجنائية.
على ما يبدو أن أجهزة الأمن لم تتعلم جيداً الدرس مما حدث في سيناء في السنوات التي سبقت 2011، ولم تدرك بعد بشكل كافٍ أهمية إشراك المجتمع المحلي في مهام حفظ الأمن والحفاظ على النظام العام، وتلجأ في مرسى مطروح وهي محافظة حدودية، لها بنية اجتماعية قبلية معقدة ومتشعبة وممتدة عبر الحدود إلى ذات الأساليب التي اتبعتها من قبل في سيناء، من تعامل أمني عنيف واللجوء إلى أساليب العقاب الجماعي الذي يشمل أبرياء من الممكن كسبهم في صف الدولة وأجهزتها المناط بها تنفيذ القانون. وليس في مصلحة أحد تصوير الأمر كما لو أنه تكتل قبلي في مواجهة الدولة ومؤسساتها، دون أن يكون هناك دليل ناجم عن تحقيق شفاف ونزيه تجريه أجهزة رقابية مستقلة عن الداخلية التي أصبحت طرفاً في الأزمة ولا يجوز أن تكون الجهة المناط بها التحقيق، لأنها تصدر أحكاماً مسبقة، كي يتوقف أسلوب معالجة الأخطاء بأخطاء أخرى أكثر فداحة وأبعد تأثيراً.
إن الاستهانة بشهادة شهود العيان الذي حضروا الواقعة والتي تسرد تفاصيل مغايرة تماماً لما ورد في بينان الداخلية من شأنه أن يضرب مصداقية الوزارة في الصميم. ونأمل أن يشمل التحقيق في الأحداث الأخيرة ما ورد في تقارير عن التعامل الأمني في هذه المناطق وما يتردد عن عمليات إخلاء قسري واعتقالات وتصفيات خارج القانون، وما قد يتطلبه ذلك التحقيق الذي من الممكن أن تشارك فيه منظمات حقوقية، مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان، ولجان برلمانية وشخصيات عامة محلية ووطنية.
ويجب التعامل بمسؤولية مع مطالب شيوخ العائلات والقبائل والعواقل في مطروح، خصوصاً أنهم أظهروا رغبة في التعاون ومساعدة أجهزة الأمن في القبض على الهاربين اللذين اشتبكا مع أفراد الشرطة، ولا ينبغي التعامل مع الأمر بذات الأسلوب والخطاب الذي ينكر وقوع أخطاء ويصور الأمر على أنه ترويج للشائعات، خصوصاُ في ضوء البيان الصادر عن نقابة المحامين في محافظة مطروح، بشأن اعتقال رجال ونساء من مدينة النجيلة، والذي اعتبره مخالفة صريحة للقانون تشكل خطورة على السلم الاجتماعي في مجتمع مطروح ذي الطبيعة الخاصة والتكوينات القبلية.
عدالة غير ناجزة ومنقوصة
تفتح حادثة النجيلة في محافظة مرسى مطروح ملف تنفيذ الأحكام القضائية، وهو من الملفات التي تؤثر سلبياً على تحقيق العدالة، وتعصف بفكرة سيادة القانون. ويعاني تنفيذ الأحكام من مشكلات كبيرة على ما يبدو تعكسها شكاوى المواطنين وتعليقاتهم على البيانات التي تنشرها الإدارة العامة لمباحث تنفيذ الأحكام، التابعة لمصلحة الأمن العام من خلال صفحتها الرسمية على الفيسبوك بمناسبة تمكنها من تنفيذ أحكام قضائية من خلال حملات تعدها لهذا الغرض والتي تكون حملات أمنية مكبرة بالتنسيق مع مديريات الأمن المختلفة بمختلف المحافظات، أو من خلال اللجان الأمنية التي تقيمها الشرطة. فكثير من تعليقات المواطنين تشير إلى عدم تنفيذ أحكام ضد مذنبين يتحركون بحرية، وبشكل علني ولا تتحرك أجهزة الأمن المعنية لتنفيذ هذه الأحكام، ويشير محامون ومراكز حقوقية وقانونية إلى امتناع الجهات الإدارية عن تنفيذ أحكام قضائية، وهو أمر حذرت المحاكم من خطورته ومن زعزعة الثقة في الدولة كدولة قانون. وتشير تقارير لمصلحة الأمن العام وإحصاءات للمركز القومي للبحوث الجنائية، إلى أن أكثر من نصف الأحكام التي تصدرها المحاكم في قضايا مختلفة بلا تنفيذ، مما يؤدي إلى ضياع حقوق ثبتت بأحكام القضاء بحسب محامين وأشخاص صدرت لصالحهم أحكام، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن بعض هذه الأحكام تنقضي بعد انتهاء مدة العقوبة، الأمر الذي يعني أننا أمام حالات إفلات من العقاب، قد تكون في كثير من الأحيان نتيجة تقاعس الهيئات المسؤولة عن تنفيذ الأحكام لأسباب مختلفة، ومن شأن ذلك أن يجعل منظومة العدالة غير فعالة لأنها تصبح غير ناجزة ومنقوصة، ومن شأن ذلك أن يزعزع ثقة المواطن في القضاء وفي العدالة، ويعمق لديهم الإحساس بأن هناك أشخاص وهيئات فوق القانون والمحاسبة والعقاب.
ويحذر مختصون من أن الأرقام الواردة في التقارير عن الأحكام القضائية التي لا تنفذ ضخمة، وتشير إلى أننا أمام وضع كارثي نتيجة لإهدار عشرات الآلاف من الأحكام القضائية وسقوط العقوبة عن مذنبين أدانهم القضاء ويشكلون خطورة على المجتمع. وأحد الأسباب الرئيسية لهذه المشكلة هو غياب منظومة لمساءلة ضباط الشرطة عن مسؤولياتهم في حالة عدم تنفيذ حكم قضائي، وهناك تقارير عن صعوبة تنفيذ الأحكام الصادرة ضد مسؤولين كبار في أجهزة سيادية في الدولة. ولا يحدد القانون المبررات التي تتيح لضباط الشرطة عدم تنفيذ أحكام القضاء، وإن كانت المادة 123 من قانون العقوبات تعطي المجني عليه الحق في تحريك دعوى قضائية ضد وزارة الداخلية لتقاعسها عن تنفيذ الحكم وتعويضه عما لحق به من أضرار نتيجة لذلك، وفي بعض الحالات يتطوع بعض المجني عليهم لإرشاد الشرطة إلى أماكن خصومهم المحكوم عليهم، لكن دون جدوى، الأمر الذي يترتب عليه تداعيات خطيرة تدفع المواطنين إلى اللجوء إلى طرق غير شرعية للحصول على حقوقهم، ويساعد على تفشى ظاهرة الثأر، خصوصاً في الأرياف.
وترتبط هذه المشكلة بأوجه قصور كثيرة في أداء الشرطة يتعين على أي خطة لإصلاحه التعامل معها. وترتبط أوجه القصور هذه بعدم تقيد الشرطة بأي إجراءات قانونية، أو بمنحه صلاحيات واسعة في ممارسة مهامه دون التقيد بأي قوانين تحمي حقوق المواطنين وحرياتهم العامة والشخصية وحرمة منازلهم، والتوسع في إجراءات الحبس الاحتياطي دون أدلة كافية أو باتهامات فضفاضة، وتسميم العلاقة بين الشرطة والمواطنين. ولا ينفصل هذا الأمر عن الفلسفة التي تحكم عمل الشرطة. فلم يكن التحول من شعار “الشرطة في خدمة الشعب” إلى شعارات من قبيل أن “الشرطة في خدمة الوطن” أو “الشرطة في خدمة سيادة القانون”، إلى تقديم مصلحة النظام وأصحاب النفوذ على مصالح المواطنين، ومنح البعض الإحساس بأنهم محصنون الأمر الذي يدفعهم إلى الاعتداء على المواطنين وترويعهم، لأنه يعلم أن الشرطة لن تتحرك وستتقاعس عن نجدة من يتعرضون للانتهاك والاعتداء، طالما أن هذا المواطن ليس من أصحاب النفوذ والسلطة، أو لأنهم يتمتعون بحماية أصحاب النفوذ والسلطة ويعتقدون أنهم فوق القانون.
إن حادثة النجيلة قد تكون مناسبة لفتح هذا الملف المستحق ووضع خطط عملية للإصلاح العام والشامل، الذي يبدأ بمراجعة شاملة لسلوك أفراد الشرطة وإجراء إصلاحات تشريعية وإدارية لمراقبتهم في تنفيذ مهامهم ومحاسبتهم على مخالفات أو انتهاكات قد تصدر عنهم، وهو ما نرجوه، أو أن يتم المرور عليها مرور الكرام ولا يحاسب المخطئون والمتجاوزون وفي ذلك تشجيع لهم على التجاوز وعدم احترام القانون واللجوء إلى ممارسات الثأر والانتقام العشوائي، التي يفترض فيهم أنهم أول من يحاربها كي يسود القانون ولا نعيش في مجتمع يحكمه قانون الغابة ومبدأ البقاء للأقوى.