
أقرر اليوم أن أكتب عن رجل لم يكن مجرد محامٍ أو مستشار قضائي، بل كان صوتًا للحق في زمن كان السكوت فيه عملة ثمينة، وكان التحدي فيه جريمة.
أكتب عن المستشار ممتاز نصار، الرجل الذي عاش وسط العواصف السياسية في مصر، وظل ثابتًا في مواقفه حتى وهو يواجه نظامًا كان يسعى لترويض كل من يتحداه.
في لحظات تاريخية فارقة، يظل المستشار ممتاز نصار رمزًا لنضال لا يعرف الخوف، وصوتًا حقيقيًا للمعارضة في مصر. لا يمكنني أن أنسى تلك اللحظة التي رأيت فيها جنازته قبل عقود، في يوم 15 أبريل 1987.
كنت شاهدًا على جنازته في مدينة البداري بمحافظة أسيوط، وأنا طالب في الصف الأول الإعدادي في سن المراهقة. لم يكن مجرد تشييع جسد، بل كان وداعًا لروح حملت هموم الوطن وحاربت الظلم في أصعب الظروف.
فقد رحل عن هذه الدنيا بعد معركة مريرة مع المرض، إذ كانت وفاة المستشار نصار بعد غيبوبة طويلة إثر مرض الفشل الكلوي.
كان ذلك اليوم لحظة فارقة في حياتي، وكان الحزن يعصر قلبي وأنا أفكر في حجم ما فقدته مصر يوم فقدت هذا الرجل. وكانت نهاية فصل من فصول المعركة التي خاضها ضد الاستبداد والفساد في قلب الدولة المصرية
شهدت حياتي كطالب في تلك الفترة القاسية أثرًا عميقًا لهذه الشخصية الفريدة، التي رغم ضعف السلطة السياسية آنذاك، أصرّت على الوقوف ضد النظام الحاكم، ورفضت أن يكون الصوت الرسمي هو الصوت الوحيد الذي يُسمع.
فقد كانت عائلات البداري والأرض المصرية أمانة في يده، فالدائرة التي حملت اسمها من خلاله كانت أكبر من أن تُدار بالمكاتب، وكان نصار نموذجًا حيًا للمقاومة الوطنية الشريفة.
لم يكن نصار مجرد معارض؛ كان شخصية ذات صلابة فكرية وشجاعة لا تقارن. عارض بشجاعة دونما تردد قادة الجمهورية، بداية من جمال عبدالناصر وصولًا إلى أنور السادات.
لم يخشَ أحدًا لأنه كان على يقين بأن الحق لا يخاف من الباطل، مهما كانت القوة التي تحيط به. رفض تعيينات السلطة في القضاء، وتحدى ممارسات التلاعب بالانتخابات. كان المستشار نصار أستاذًا في مناهضة الظلم، وموحدًا لصفوف من اختاروا الكفاح بطرق سلمية وعقلانية.
تحدث الجميع عن مواقفه البطولية ضد السلطة الحاكمة في مصر، لكن لا أحد يملك وصفًا دقيقًا لمقدار ما عاناه هذا الرجل من أجل الحق.
اختار ممتاز نصار أن يرفع صوته في وقت كانت فيه المعارضة جريمة، وعاش داخل ساحة المعركة السياسية لأكثر من خمسة عقود.
رفض أن يكون جزءًا من النظام الذي رأى فيه فسادًا لا يمكن التستر عليه. كان ذلك الرجل الوحيد الذي استمر في مواجهة الأنظمة الحاكمة دون أي خوف، ليصبح رمزًا للعدالة والحرية في عصر كان يهيمن عليه الصمت.
كان نصار، الذي وُلد في 9 نوفمبر 1912 في البداري، ينتمي إلى عائلة ذات جذور عميقة في المنطقة. نشأ على قيم الحق والعدالة، وتلقى تعليمه في مدارس أسيوط ثم انتقل إلى القاهرة حيث حصل على ليسانس الحقوق، ليبدأ رحلة طويلة من العمل القضائي التي قادته إلى أن يصبح مستشارًا بمحكمة الاستئناف.
لم يكن عمله القضائي مجرد وظيفة، بل كان بمثابة سلاحه الذي استخدمه في الدفاع عن استقلال القضاء ورفض الضغوط السياسية التي كانت تحاول التأثير على العدالة.
في الفترة التي تولى فيها نصار رئاسة الهيئة البرلمانية الوفدية بمجلس الشعب، كان لا يُقهر في موقفه. دفع ثمنًا باهظًا لوقوفه ضد السلطة، وكان دائمًا في المواجهة مع النظام، سواء كان في مواجهة قرارات السلام أو أي محاولات للنيل من سيادة الشعب.
أبدع في كشف الفساد، وكشف المستور الذي كان النظام يحرص على إخفائه. لم يتوقف عن معركة الكشف، فاستجوب كبار المسؤولين مثل المهندس عثمان أحمد عثمان، الذي كان أحد أقارب الرئيس السادات، في محاولات جريئة لتوضيح حقيقة الأمور التي كانت تختبئ وراء الأبواب المغلقة.
لم تكن معركة ممتاز نصار معركة شخصية؛ كانت معركة الشعب المصري ضد الفساد والاستبداد. كان أحد أبرز المدافعين عن القضاء المصري حينما تعرّض للاعتداء من قبل السلطة في عام 1969، حين قرر جمال عبد الناصر إبعاد القضاة المستقلين وتوجيههم لخدمة مصالح الحكومة.
رفض نصار الركوع لأوامر السلطة، ورفض أن يُستخف بالعدالة. كان من أبرز وجوه العصر الذهبي للمعارضة في مصر، الذي اتسم بمجلس 71-76 البرلماني، الذي عرف بأداء نضالي غير مسبوق.
استطاع أن يخلق لنفسه مساحة أوسع في التاريخ السياسي المصري عندما تصدى لمشروع بيع أراضي هضبة الأهرام.
تلك الأرض الغالية التي كان يخطط البعض لبيعها للمستثمرين الأجانب، لكن نصار كان الدرع الذي صد هذه المحاولة، محققًا انتصارًا مهمًا للدفاع عن تراث مصر وثرواتها القومية.
كانت تلك لحظة فارقة في حياته السياسية، حيث أرسل له خطاب تقدير من منظمة اليونسكو التي كانت تشيد بموقفه الوطني.
أيضًا، لم يتوقف نصار عند مقاومة الفساد السياسي فحسب، بل اتخذ مواقف جريئة ضد أي محاولات للمساس بالمقدرات الاقتصادية للشعب.
طرح مشروعًا لإلغاء مخصصات أسرتي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات في كل من القاهرة والإسكندرية، وهي خطوة جريئة تتيح للدولة فرصة لتوفير ملايين الجنيهات التي يمكن استغلالها في صالح الاقتصاد القومي.
أعتقد أن تاريخ مصر لا يكتمل بدون ذكر هؤلاء القلائل الذين رفضوا أن يعيشوا في الظل. شخصيات مثل ممتاز نصار، التي حملت لواء المعارضة في زمن كانت فيه المعارضة جريمة، تثبت لنا أن الصدق في المواقف والتمسك بالحق لا يمكن أن يموت.
لذلك، عندما نرى اليوم خنوعًا وتهاونًا سياسيًا، يجب أن نتذكر أننا نعيش في ظل تضحيات هؤلاء الذين قاوموا الاستبداد ورفعوا صوت الحق، حتى وإن كانت تلك المعركة قد كلفتهم حياتهم أو استنزفت جزءًا من طاقاتهم.
شخصية ممتاز نصار لا تشبه أي شخصية أخرى في التاريخ السياسي المصري. لا يمكن أن تُختزل في مجرد رجل قانون، بل كان هو الوجه الآخر للمعارضة الوطنية الحقيقية.
لم تكن مواقفه مجرد ردود فعل على الأحداث، بل كانت إيمانًا عميقًا بأن مصر تستحق أكثر من هذا الخنوع الذي كانت تتجرعه في تلك الفترات. كان يعلن بوضوح أن الفساد يجب أن يُحارب من جذوره، وكان يسعى بكل قوته لكشف أي محاولة لاختراق حقوق الشعب المصري.
يجب أن نتذكر دائمًا أنه في فترات الصمت السياسي، كانت هناك أصوات مثل صوت ممتاز نصار، كانت تشق طريقها وسط الظلام.
لقد كانت مقاومته أشد وأوضح من أي مقاومة أخرى في زمن كانت فيه السلطة تحاول القضاء على كل من يعارضها. وهكذا، ظل ممتاز نصار، في الذاكرة الشعبية والتاريخية، علامة فارقة في تاريخ المعارضة السياسية في مصر. ترك وراءه إرثًا من النضال لم ولن ينساه التاريخ.
وسيظل ممتاز نصار في ذاكرة المصريين، ليس فقط كقاضٍ أو نائب، بل كبطل حارب من أجل وطنه. هذا الرجل الذي لم يساوم على قناعاته أبدًا، ولم يسمح لأحد أن يمحو اسمه من تاريخ المعارضة المصرية.
أدعو اليوم إلى ضرورة إحياء ذكرى هؤلاء الأبطال في الذاكرة الوطنية، فهم جزء من تاريخنا الذي لا يمكن أن يموت.
فممتاز نصار ليس مجرد اسم في صفحات التاريخ، بل هو مثال للإنسان الذي ناضل بكل ما أوتي من قوة من أجل وطنه، وفعل ما لا يستطيع كثيرون فعله في ظروف أصعب بكثير.