د. أيمن نور يكتب: ورقة من مذكراتي: ممتاز نصار اسم أهمله التاريخ

حين تتحدث المضابط البرلمانية، وقبلها الضمائر الوطنية، تُسطّر أسماءٌ لا تُنسى… في طليعتها ممتاز نصار، القاضي الذي صاغ معاني النزاهة، والنائب الذي وهب حياته لمصر لا لدائرته، والضمير الذي لم يتواطأ يومًا مع الصمت.
يزداد شرفي أنني كنائب ليبرالي عايشت هذا الجيل الذهبي، وتعاونت مع النائب الشجاع علوي حافظ حتى وفاته، وتعلمت من الأستاذ عاد العيد، الذي زاملته في برلمان 1995، فكان مدرسة في الخلق والوطنية. وكان لي كذلك فخرٌ لا يُضاهى أن أزامل المستشار ممتاز نصار، في سنواته الأخيرة داخل الوفد، حين كان رئيسًا للهيئة البرلمانية، وصوتًا لكل المصريين، لا لفئة أو حزب.
وإذا كنت أعتز بأنني تتلمذت، قرابة عقدين من الزمان، على يد الزعيم فؤاد سراج الدين، فإنني أعتز أكثر بأنني عايشت من صنعوا مجد الوفد لا بالكلمات، بل بالمواقف.
وُلد ممتاز نصار من رحم العدالة، لكنه لم يهنأ بها طويلًا. تم عزله في مذبحة القضاء الشهيرة، فقط لأنه لم يُطأطئ الرأس، ولم يُبدّل ثوبه الأسود برداء الطاعة. لم ينكسر، بل انتقل إلى ساحة البرلمان، ليصبح صوتًا حرًّا، لا يُساوم، ولا يُهادن، ولا يتاجر.
لم يكن خطيبًا صاخبًا، بل عقلًا هادئًا يزن الأمور بكفة الوطن، ويصوغ اعتراضه بمنطق القانون. دافع عن حقوق المصريين، وقف في وجه الفساد، وحين نطق، صمت الآخرون، لأن المنطق لا يُقاطع.
لا أنسى مشهدًا لا يغيب عن ذاكرتي: جلسة مواجهة بينه وبين رئيس الوزراء الأسبق كمال حسن علي، وقف فيها نصار وقال بصوتٍ رخيم:
“هذا ليس استجوابًا، بل شهادة للتاريخ، وسأوقع عليها أمام الله والوطن”.
لم يقاطعه أحد، لا خوفًا، بل توقيرًا.
كان رجلًا بحجم الدولة… لا بحجم المقعد. من مواليد دائرة البداري في أسيوط، لكنه لم يكن يومًا نائبًا لدائرةٍ، بل للأمة بأكملها. صوتٌ لا يشبه سواه، وظلٌّ لا يُشبه ظلّ أحد.
رحل ممتاز نصار في صمت، ذات صباح من إبريل 1987، وكان يوم رحيله جرس إنذار خافت بأن زمن الكبار ينقضي. كتبتُ آنذاك وكنت شابًا صغير السن:
“خسرنا قاضيًا يمشي على قدمين، ووطنيًا لا يخشى الوقوف وحده… لكننا، قبل كل شيء، خسرنا ضميرًا كان يُشبه النور في زمن الظلام.”
مؤسف أن تمر ذكرى رحيله، اليوم، دون سطر واحد في جريدة الوفد التي كان أحد أعمدتها، ودون ذكر في حزبٍ طالما حارب لأجله. فإذا لم تكتب عنه “بوابة الوفد”، فليُكتب عن نسيانها.
لا نلوم الزملاء الصغار الذين لم يعرفوه، بل نعاتب من كان يجب أن يُذكّرهم. من جلس فوق الكرسي، ونسي من صنعه، من ترك القامات وسجد للتعليمات.
حدثني فؤاد باش اسراج الدين ذات مرة قائلًا: “بعض الأسماء تكفي وحدها لتكون تيارًا”. وكان يقصد ممتازنصار، لا سواه.
واليوم، حين يُمحى اسمه من سجلات الشكر، نُدرك أننا لم نعد في زمن التيارات… بل في زمن “التعليمات”.
رحم الله ممتاز نصار، الذي لم تُغره المناصب، ولم تُرهبه السلطات، ولم يشترِ صمته أحد. رجل لم يُدفن في إبريل 1987، بل دُفن يوم قررت ذاكرة الأمة أن تنساه… وذاك هو الموت الحقيقي.