مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: أسبوع الآلام .. طقوس مقدسة تنطق بالحزن

ينتابني شعور جارف بالرهبة كلما حلّ هذا الأسبوع .. يُشرق في القلب ضوء مهيب لا يشبه سواه .. يبدأ الأسبوع، فأُبادر بالمشاركة مع إخوتي في الوطن من الأقباط، بكل ما يملأ هذه الأيام من مشاهد تعبيرية، لا تخطئها الأرواح ولا يغفلها الوجدان.

تسري ذكرى الآلام في الطرقات كما تسري بين أنفاس الصلوات، ليغدو الزمن محمّلاً بما هو أبعد من الطقوس؛ إنه زمن النور المختبئ خلف غلالة الحزن، زمن الصبر المضمَّخ بالرجاء، زمن العبور من العتمة إلى الضياء.

تخفق القلوب حين تُستحضر لحظة دخول سيدنا عيسي عليه السلام – المسيح – إلى أورشليم .. تهتف الجموع، وتلوّح بالسعف، لكن ما ينتظر خلف هذا الفرح ليس سوى درب صليب موحش.

حيث تُنكر الأصوات، ويُباع الحب بثلاثين فضة .. تتقافز لحظات الخذلان أمامنا لا لتستنطق الذكرى فحسب، بل لتوقظ في كل واحد منا صوتًا داخليًا يطرح السؤال الأبدي .. هل نتحمّل عبء الحقيقة كما تحمّله هو؟

يُحيي المؤمنون من الأقباط أيام هذا الأسبوع بصلوات متواترة، تنبض بحزن مقدّس .. تلبس الكنائس السواد، وتُلجم الأصوات، وتسير الرؤوس منخفضة.

لا شيء يعلو على صمت الصلاة سوى صوت القراءة المرتّلة، التي تشقّ السكون كما يشق الحزنُ القلوب. تتلو كل ساعة من سواعي البصخة بنظام صارم، لا تشوبه عشوائية، وكأننا في حضرة زمن مختلف لا يخضع لمقاييس الحياة اليومية.

يرتّب الأقباط صلوات الأسبوع وفق تقويم ينسج خيوط المعنى بدقة مذهلة .. تُفتَح الصفحات القديمة، تُستخرج النبوات، وتُستعاد المزامير، وكأن الزمان يلتفّ على نفسه ليضعنا وجهاً لوجه أمام المصير.

لا يُقرأ كل ذلك لإحياء نصوص جافة، بل يُستحضَر كي تنبض هذه الكلمات فينا، لتقول إن الآلام ليست نهاية بل عبور، وليست عقوبة بل دعوة.

يستحضر المشاركون في طقوس هذا الأسبوع مشاهد الألم ليس من باب تمجيد العذاب، بل من باب التبصّر في معناه .. يُرفَع الصليب لا ليُخيف، بل ليعلّم.

تُستعاد مشاهد الخيانة لا كي نتفرّج عليها، بل كي نواجه وجوهنا في مرآتها. تُتلى العظات من فم آباء تركوا لنا حكمة ممزوجة بالدموع، وكأنهم أرادوا أن يُودِعونا درباً لا تفنى ملامحه مهما تبدّلت الأيام.

يُبادر الكثيرون إلى التفرّغ الكامل خلال هذه الأيام .. تغلق بعض البيوت أبوابها، وتخفت أصوات التلفاز، ويُحجَب الضجيج لصالح الخشوع.

يتشارك الناس أجواءً روحانية لا تنتمي إلى العالم الخارجي، بل تنبثق من الداخل، من القلب الذي اختار أن يهب نفسه برهة للسكينة.

يُقلّب المشاركون صفحات الطقوس، فيبحثون بين الكلمات عن المعنى، ووسط الألحان عن الصبر، وفي نهاية الدرب عن وعدٍ لا يزول.

تُشدَّد الجراح في يوم “الجمعة العظيمة”، حين تتلو الكنائس صلوات تسير على وقع الحزن الكامل .. يُرتَّل لحن “يا ملك السلام” بشجن عميق.

لا تذرف الدموع بلا معنى، بل تسيل على مهلٍ كأنها تطهّر الروح من صراعاتها العابرة .. ينتهي اليوم، لكن لا تنتهي المشاعر. يتّسع القلب ليحمل قدراً أكبر من الإنسانية، لأن الألم حين يُحتمل بشجاعة يتحوّل إلى درس خالد.

يتزامن سبت النور مع حالة من الترقّب الهادئ .. لا يعود الحزن مهيباً كما في البداية، بل يغدو صامتًا كأنما يستعد لحدث لا يُشبه غيره.

تُضاء الشموع، وتنتظر الأرواح شروق القيامة، التي لا تأتي بصخب الانتصار، بل تأتي بروعة التحوّل. كأنما القبر لم يُفتح فقط ليخرج منه المسيح، بل ليتنفّس العالم من خلاله أملًا جديدًا لا يذبل.

ينخرط المسلمون في هذا السياق الروحي دون أن يشعروا بالغربة، لأن جوهر ما يُستعاد هنا ليس خاصًّا بفئة دون أخرى .. تتجلى القيم الجامعة: الصبر، الفداء، الرجاء، التسامح.

وهذه ليست ملكاً لدين أو طائفة، بل هي كنز الإنسان حين يرتقي. تتجدّد مشاعر الإخاء، لا على مستوى الشعار، بل في عمق الشعور بالمسؤولية المتبادلة، بأنّ وجع الآخر يمسّني، وفرحه يعنيني، وطريقه قد يكون طريقي.

يستقبل الأقباط “أحد القيامة” بفرح لا يشبه الأفراح المعتادة .. يُقال إن الموت هُزِم، وإن الحياة أزهرت من حيث لا يُرجى النماء .. وتتفتح الزنابق البيضاء في القلوب، لا في الكنائس فحسب.

لا يعود الحديث عن الألم كافيًا، بل يصبح الحديث عن الرجاء ضرورة. هنا تبدأ المعاني في الانفتاح على آفاق لا نهائية: إن الظلمة قد تطول، لكن النور حتمًا يأتي.

يسير الأسبوع نحو ختامه، تاركًا في القلوب أثرًا لا يُمحى .. لم تكن الأيام تمرّ عبثًا، بل كانت ترسم في النفس معاني لا تُختزل في كلمات.

ويظلّ العبور، بكل ما يحمله من دلالات، هو محور الرحلة؛ عبور من الخوف إلى السلام، ومن الخذلان إلى الأمل، ومن الألم إلى حياة جديدة.

هكذا تمضي أيام “أسبوع الآلام”، لا بوصفها طقسًا دينيًا فقط، بل كمرآة للروح، وموسم تأمل، ومدرسة في الصبر والرجاء .. من يَخُض غمارها بقلب مفتوح، لن يعود منها كما كان.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى