ثقافة وتاريخ

يحيي الأقباط أسبوع الآلام بطقوس روحية عريقة تعكس عمق الإيمان

ينطلق الأقباط في مصر كل عام للاحتفال بأسبوع يُعد من أقدس الأوقات في حياتهم الروحية حيث يستعدون للدخول في أجواء روحانية مميزة يعمّها الصمت والخشوع وتغلفها الألحان الحزينة وتتزين بها الكنائس باللون الأسود تعبيراً عن الحزن والمشاركة الرمزية في آلام المسيح

يحرص المؤمنون على الحضور اليومي للكنائس منذ بداية الأسبوع الذي يبدأ بسبت لعازر حيث يتذكرون فيه معجزة إقامة لعازر من الموت وهي المعجزة التي يعتبرونها دليلاً قوياً على قدرة المسيح الإلهية واستباقاً واضحاً لقيامته في اليوم الثالث بعد الصلب

يبدأ أسبوع الآلام فعلياً حسب طقس الكنيسة القبطية من الساعة الحادية عشرة مساءً في يوم أحد الشعانين بينما كان في عصور سابقة ينطلق من سبت لعازر لكن في تقليد آخر يُعد الشعانين جزءاً لا يتجزأ من الأسبوع ولا يُفصل عنه في التقويم الطقسي

يُقيم الأقباط يوم أحد الشعانين أو أحد السعف كاحتفال مفرح قبل الدخول في حزن البصخة حيث يتلون بالأغصان والنخيل ويحملونها في أيديهم ويهللون بكلمات اقتبسوها من الجموع القديمة التي استقبلت المسيح في أورشليم وهم يهتفون أوصنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب

يعتمد الطقس في هذا الأسبوع على تقسيم اليوم إلى خمس ساعات نهارية وخمس ليلية ويُضاف إلى يوم الجمعة العظيمة ساعة سادسة هي صلاة الساعة الثانية عشرة ويُرتب في كل ساعة قراءات من النبوات والمزامير والأناجيل والعظات والترانيم والطلبات وكلها تُقدم بروح حزينة تُشعر المشاركين بجلال اللحظة

يتلو الكاهن البركة بعد نهاية الصلوات اليومية ويُختم بطلبات الرحمة والسلام والغفران لكل من في الكنيسة ولكل العالم حيث يتردد لحن كيرياليسون يا رب ارحم بشكل متكرر بين صلوات تُبكي القلوب وتُرقق المشاعر

يسعى المؤمنون إلى ممارسة التأمل والصلاة طيلة أيام هذا الأسبوع إذ يعتبرونه مناسبة للعودة إلى الذات ومراجعة الحياة الروحية واقترابًا من مفهوم الألم الممزوج بالخلاص فآلام المسيح ليست فقط قصة بل حدث خلاصي له بُعد روحي عميق

يعتمد هذا الأسبوع على طقوس متجذرة في تقاليد الكنيسة منذ القرون الأولى حيث تطور الطقس من صيام يومين أو ثلاثة أيام قبل الفصح في القرون الثلاثة الأولى إلى صيام ستة أيام في القرن الثالث حتى جُمع الصوم الكبير وأسبوع الآلام في وحدة طقسية واحدة بقرار من البابا أثناسيوس الرسولي عام 330 ميلاديًا

يفتتح اليوم الثاني من الأسبوع المسمى بإثنين البصخة بتذكار تطهير المسيح للهيكل من الباعة والصيارفة فيرمز هذا اليوم إلى نقاء القلب وطهارة النفس من كل ما يُدنّسها وهي رسالة تُجسد دعوة للإصلاح الداخلي والتوبة العميقة

ينتقل المؤمنون في ثلاثاء وأربعاء البصخة إلى متابعة الأحداث المتعلقة بتآمر الكتبة والفريسيين وتسليم يهوذا وتبدأ المشاعر تتصاعد مع اقتراب يوم خميس العهد الذي يُخلد فيه ذكرى العشاء الأخير وغسل الأرجل حيث يُقام طقس غسل الأرجل في الكنيسة اقتداءً بما فعله المسيح مع تلاميذه

يحتوي يوم الجمعة العظيمة على ست ساعات من الصلوات المتواصلة تُقرأ فيها جميع نبوات العهد القديم المرتبطة بالصلب وتُعرض خلالها رمزية صلب المسيح على مراحل وتُتلى المزامير ويُرفع الصليب وتُقرأ قصة الآلام كاملة من الأناجيل الأربعة

يُختتم الأسبوع بسبت النور وهو اليوم السابق لأحد القيامة حيث يتذكر الأقباط نزول المسيح إلى الجحيم وتحريره للأرواح من قبضة الموت فتُقام الصلوات عند منتصف الليل إيذاناً بقيامة المسيح ويُنير الكاهن الشموع وسط الظلام في الكنيسة إشارة إلى النور الخارج من القبر

يحتفظ الأقباط في كتاب خاص يُدعى “كتاب البصخة” بجميع صلوات الأسبوع وهو كتاب وُضع في القرن الثاني عشر بترتيب الأنبا بطرس أسقف البهنسا وأضاف إليه قراءات مخصصة لكل ساعة من اليوم تُرتب فيها الأناجيل والمزامير والنبوات وعظتين يومياً من أقوال الآباء

يستعرض الكتاب في ترتيب القراءات يوم الثلاثاء إنجيل القديس متى ويوم الأربعاء إنجيل القديس مرقس ويوم الخميس إنجيل القديس لوقا وتُقرأ في ليلة العيد رسالة القيامة من إنجيل القديس يوحنا كما تُتلى المزامير بلحن خاص في سبت النور

تُجدد الكنيسة القبطية في كل عام دعوة المؤمنين لمتابعة هذا الأسبوع بخشوع وإيمان حيث كان الأباطرة قديماً يمنحون موظفي الدولة عطلة رسمية لحضور الصلوات كما كان الملوك يمنحون خدمهم عطلة خاصة لينضموا إلى العبادة حتى يكون الجميع في مساواة روحية أمام الرب

يتبع المؤمنون في طقوس البصخة ترتيباً خاصاً يبدأ بالنبوة ثم العظة والتسبحة والمزمور والإنجيل والطرح ثم الطلبة والبركة وتُرتل خلال اليوم ألحان تُعرف بالحزينة مثل ثوك تي تي جوم وأبؤرو وكيرياليسون ويتكرر كل عنصر 12 مرة إشارة إلى تلاميذ المسيح

يُعتبر أسبوع الآلام أقدس أيام السنة في الطقس القبطي ولا يُعادله أي زمن آخر في الأهمية الروحية حيث يُغلق الناس متاجرهم ويتوقفون عن أعمالهم التجارية ويلازمون الكنائس للصلاة والتأمل في معاني الفداء والخلاص

يتجه الأقباط إلى تلاوة قراءات محددة تُبرز العلاقة بين الإنسان والله من خلال النبوات والأمثال والأحداث الواقعية التي جرت في حياة المسيح وهي نصوص تُرتل وتُتلى على مسامع المصلين في كل ساعة من ساعات البصخة العشر

يُحرص خلال أسبوع الآلام على عدم إقامة القداسات اليومية العادية إلا في يوم خميس العهد حيث تُقام الذبيحة الإلهية الوحيدة في الأسبوع وتُوزع الأسرار المقدسة على المؤمنين وهي لحظة يُنظر إليها باعتبارها لقاءً مباشراً مع المسيح في ذكرى عشائه الأخير

تُعد أسماء الأيام ذات دلالة رمزية فكل يوم يحمل اسماً يُشير إلى واقعة جوهرية في حياة المسيح منها سبت لعازر أحد الشعانين إثنين البصخة ثلاثاء البصخة أربعاء البصخة خميس العهد الجمعة العظيمة سبت النور وكلها أيام مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأحداث النهائية من حياته الأرضية

ينظر الأقباط إلى هذا الأسبوع باعتباره أسبوع عبور وليس مجرد أسبوع آلام إذ إنه يُجسد مفهوم العبور من الموت إلى الحياة ومن الحزن إلى الرجاء ومن الأرض إلى السماء وهو ما يجعله أسبوعاً للخلاص بحسب الإيمان المسيحي

يرتبط اسم البصخة في الأصل باللغة الآرامية ويعني العبور لا الألم كما يظن البعض بينما الكلمة اللاتينية passio هي التي تعني الألم وقد يكون هذا التداخل سبباً في الخلط بين المفهومين لكن الكنيسة تؤكد على المعنى الروحي لعبور الإنسان من الخطية إلى النعمة

يروي التاريخ كيف تحول أسبوع الآلام من مناسبة نادرة تُقام كل ثلاثة وثلاثين سنة إلى تقليد سنوي بعد أن لاحظ البطاركة أن هناك من يموت دون أن ينال بركة المشاركة فيه لذلك تقرر الاحتفال به سنوياً وربطه مباشرة بفترة الصوم الكبير

يعكس هذا الأسبوع في طقوسه وتقاليده حالة من السكون والتعبد العميق التي يتوق لها المؤمنون كل عام ليعيشوا في صمت داخلي وهدوء خارجي تكتمل فيهما معاني الفداء والرجاء والخلاص

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى