د. أيمن نور يكتب : للسلطة والمعارضة:- أليس من بينكم عاقلٌ رشيد؟

لا تُختصرُ الأزمة في النجيـلة، ولا تنحصر في الجزيرة. إنها سلسلة متشابكة من النكسات، تمتد من أطراف الجغرافيا إلى أعماق النفوس.
دولةٌ خائبة، لا تجيد إلا التُفرّط في حقوق مواطنيها. تُهمل واجباتها الأساسية، لتتحول إلى كيانٍ للعجز، تُخيم عليه غيوم الفشل، وظلال اللامبالاة.
حين تُرفع أسعار البنزين، لا يكون ذلك مجرد إجراء اقتصادي، بل انعكاسٌ لفلسفة في الحكم، تضع المواطن في ذيل الأولويات، وتستبدل الكرامة بالجباية، والعدالة بالاستسلام لشروط صندوق النقد الدولي.
في ظل هذا المشهد، تتكشف الحقائق المُرّة: الدين العام يتجاوز ٩٥٪ من الناتج المحلي، ويستهلك أكثر من نصف الموازنة في خدمة الدين وحدها. التضخم يرتفع لمستويات غير مسبوقة، ويضرب في عمق السوق، حتى باتت السلع الأساسية ترفًا عزيزًا على مختلف الطبقات. البطالة تزداد، لا سيما في صفوف الشباب والخريجين، في ظل انكماش فرص العمل الحقيقية. الجنيه فقد أكثر من ٧٠٪ من قيمته منذ ٢٠٢٢، مما أفقد الأسر قدرتها الشرائية وفتح بابًا واسعًا للفقر. العجز التجاري تجاوز ٤٤ مليار دولار، وسط هروب الاستثمار، وجفاف مصادر النقد الأجنبي. أكثر من ١.٥ تريليون جنيه تُنفق سنويًا على خدمة الدين، في ظل تراجع الإنتاج وتدهور القوة الشرائية.
ومع كل ذلك، لا تتورع الحكومة عن الاعتراف بعجزها الكامل، حين يخرج رئيس وزرائها مصطفى مدبولي في لحظة نادرة من المكاشفة، ليقول -بكل ما في القول من فداحة-: “لا نملك رؤية متكاملة للمستقبل”.
وهل هناك اعتراف أكثر خطورة من هذا؟ أن يُقرّ من يتصدر واجهة السلطة، أنه لا يملك تصورًا للغد، ولا خطة للإنقاذ… فهذا ليس فقط إعلان فشل، بل إشهار إفلاس سياسي وذاتي لدولة بأكملها.
المشهد لا يُدار بالعقل، بل بالقهر، ولا تُعالج فيه الأزمات، بل يُعاد تدويرها حتى أصبحت كوارث. الدعم يُرفع، والضرائب تُتوسّع، والفساد ينمو، والإعلام يُكذب، والمعارضة تُسكت، والمجتمع يُفرغ من نخبه وصوته. ولا صوت يعلو فوق صوت الأجهزة.
ومع هذا الركام، يبقى السؤال الذي يُؤرق الضمير: أليس من بينكم عاقلٌ رشيد؟ عاقلٌ في السلطة يُدرك أن الوطن لا يُدار بالقهر، ولا تُبنى الدول بالجباية، وعاقلٌ في المعارضة يفهم أن اللحظة لا تحتمل التشرذم، بين الداخل والخارج، بين قوى مدنية وقوى مُلغاة بقرارات فوقية. متى تدرك معارضة الداخل والخارج أن الاتحاد ضرورة لا ترف، وأن الاختلاف في الرأي أو الموقف لا يعني نهاية العالم؟
لهذا أوجّه هذا النداء لكل العقلاء من السلطة والمعارضة: أين أنتم؟ من معكم؟ كي أقول لكم: كيف أنتم الآن؟ اتحدوا… اتفقوا… استمعوا إلى صوت العقل… وشاركوا في إنقاذ الوطن من هذه اللحظة العاصفة. مصر لا تنتظر المزيد من البيانات والتصريحات… بل تنتظر من يمدّ يده لإنقاذها، لا من يزيد جراحها.