شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: ورقة من مذكراتي زيزو الذي مات في حضني. والقاضية المسيحية وخروف المحكمة!

ذاكرتي تختزن مشاهد لا تُمحى، تأبى النسيان، وتعود إليّ كلما فتحتُ دفترًا جديدًا من دفاتر الذاكرة. واحدة من هذه المشاهد تبدأ حين صدر حكم من محكمة القضاء الإداري بإبطال حبسي انفراديًا. لم تهضم الأجهزة الأمنية مضمون الحكم، فأرادت تطبيقه لا بروح القانون بل بروح النكاية. وكان التنفيذ أن جاؤوا برجل، يُجاوز التسعين، وألقوه في زنزانتي. اسمه عبد العزيز، لكن الكل كان يناديه بـ”زيزو”.


لم يكن عبد العزيز مجرمًا، ولا يعرف معنى الرشوة من الأصل. كل جريمته أن شقيق الدكتور رفعت المحجوب ، وكان متهمًا في إحدى قضايا الرشوة والفساد، حاول الهرب من القبض عليه، في الشارع فدخل محل زيزو – وهو خياط قديم في وسط القاهرة – واختبأ فيه لدقائق. دخلت الشرطة، قبضت على الرجل، واقتادت زيزو أيضًا، وكأن صاحب الدكان شريكًا في الجريمة! وحين وقف زيزو أمام القاضي، لم يحضر محامٍ، وكان الزمن قد أثقل لسانه، فلم يحسن الدفاع عن نفسه، فصدر عليه حكم بالسجن خمسة عشر عامًا!


لم يشفع له شيب رأسه، ولا هزال جسده، ولا عزلته عن العالم. فقد كان رجلًا هزيلًا، لا يتجاوز وزنه 45 كيلو، متشبثًا بأغاني كتبها لعبد الناصر، ولا يعرف أن عبد الناصر قد مات، وأن السادات جاء بعده، ثم مبارك الذي نافسته على رئاسة الجمهورية. قال لي عندما تحدثنا لأول مرة: “هل أنت اللي اترشحت ضد الرئيس عبد الناصر؟”. قلت له: “عبد الناصر مات، واللي نافسته هو مبارك”.

فبكى زيزو بحرقة عندما سمع أن عبد الناصر مات!
زيزو كانت له معي عادة يومية؛ أن يطلب مني أن أطلب من العسكري المخصص لإحضار طلباتي من كنتين السجن أن يشتري له كيس شبسي على حسابي. كنت مندهشًا من هذا الطلب اليومي، خاصة أن زيزو كان له سنٌ واحدة في منتصف فمه، فكيف له أن يقضم شرائح الشبسي، رغم أنه بلا أسنان.


لم أفهم المغزى، إلى أن جاء آخر أيامه في الحياة. ناداني وقال: “اجلس إلى جواري”. جلست. قال لي: “لك عندي 22 جنيه ونصف”. وأخرج من كيس المخدة عددًا من الجنيهات الفضية، وأكمل: “أنا ما استلفتش منك، لكن كل كيس شبسي كنت تطلبه لي، كان فيه ربع جنيه فضة تضعه الشركة المنتجة، وأكنت بجمعهم علشان أركب تاكسي يوم ما أخرج لأعود لبيتي. بس شكلي حاروح مشوار تاني..

هما اللي هيوصلوني فيه، فخدهم يا ابني، دا حقك”.
بعد ساعات قليلة، مات صديقي زيزو. قرأت على رأسه سورة يس، ثم سلّم الروح بهدوء.

حملوه في الصباح دون أن يحتاج إلى التاكسي، فقد وصل إلى مستقره الأخير. وكنت أسأل نفسي – كل يوم – عن ذلك القاضي الذي حكم على رجل في مثل هذا السن وبهذه الحالة بالسجن 15 عامًا!


هذه القصة تذكرني بقصة “الخروف”… حين اتُّهِم أحد المحضرين بالرشوة، فقط لأن مواطنًا ربط خروفًا في القضبان الحديدية خارج مكتبه. ووجده القاضي أثناء دخوله المحكمة، فاعتبره رشوة. كان الخروف قد رُبط دون علم المحضر، إذ أحضره أحد المتقاضين كـ”نُذُر” لقضية عائلية، ووجد أن القضبان خارج مكتب المحضر تصلح للربط. القاضي، وقد صادف الحبل في طريقه، تبعه حتى الخروف، فاعتبر الأمر دليلاً على تلقي المحضر هدية، وصدر الحكم بالسجن عشر سنوات. لكن في الاستئناف، تم إثبات أن الخروف لم يكن للمحضر ولا يعرف عنه شيئًا، فأُسقط الحكم.


القاسم المشترك في القصتين، أن هناك قضاة لا يرون إلا النص، ويتبعون التعليمات ولا يبصرون الروح. ينظرون إلى الوقائع لا إلى الإنسان. لكن هناك قضاة آخرون – مثل القاضية اللبنانية المسيحية جوسلين متى – ينفذون القانون بروح الفهم لا حرفية العقاب.

حين أمرت شبانًا مسلمين متهمين بارتكاب أعمال تهين السيدة مريم في إحدى الكنائس في بيروت، ووسط توقعات بأن القاضية المسيحية ستصدر حكمًا مغلظًا عليهم، أمرتهم بحفظ سورة آل عمران بدلًا من سجنهم. أعادت العدالة إلى نصابها، وربطت العقوبة بالوعي، لا بالأذى.


ما بين زيزو والخروف، تظل العدالة بحاجة إلى فلسفة، لا إلى مجرد قضاة. إلى ضمير يقرأ ما بين السطور، لا فقط ما جاء في لسان المحضر.
هكذا علمني أبي أن القضاء ليس وظيفة.. بل حكمة. وأن القاضي ليس سلطة.. بل ضمير. وأن الرحمة – قبل النص – هي طريق العدل، إذا كان للعدل طريق

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى