
تتفجر الذاكرة في كل عام، وتصرخ الجراح من جديد، فتُجبرنا على النهوض من صمتنا، وتوقظ فينا صوتًا لا يقبل السكون.
يُصرّ القلب أن يتكلم، ويرفض العقل أن ينسى، ويأبى الضمير أن يغض الطرف عن مشهد لا يتكرر إلا في أكثر صفحات التاريخ دمويةً ووحشية.
يُعيد يوم 8 أبريل نفسه، لا كذكرى فقط، بل كطعنةٍ مغروسة في خاصرة الوطن، ووصمة عار على جبين الإنسانية جمعاء.
يُلطّخ طغيان آلة الحرب الإسرائيلية ذاكرة الشرق الأوسط بمجزرة لا تمحوها السنون، مجزرة نفذتها طائرات العدو ضد أجساد لم تبلغ سن الفهم، أجساد صغيرة تحمل حقائب مدرسية، وقلوب بريئة لا تعرف من الدنيا إلا السبورة والأمل والحلم البسيط بمستقبل آمن.
يُستهدف جدار مدرسة، لا موقعًا عسكريًا، فتتحول الفصول إلى مقابر، ويغدو الدفتر مرقعًا بدماء الشهداء، ويغدو الجرس ناقوس فجيعة لا يتوقف عن الرنين.
يُدهشنا صمت العالم المخزي، حين تُسفك دماء الأطفال فلا تُدان الجريمة كما يجب، ولا تُحاسب الأيادي القاتلة التي لطّخت جبين التاريخ.
يُمعن الجناة في الغطرسة، ويتمادى المحتل في حماقاته، بينما يكتفي العالم الحر بإصدار البيانات الباردة، ويخفي رأسه في رمال المصالح.
يُجبرنا واجب الأخلاق ألا نغض الطرف، وألا نسامح، وألا نصمت. يُطالبنا دم الشهيدة بثينة والشهيد محمود بأن نظل شهودًا، وألا نسمح للدموع أن تطمس الحقيقة.
يُلزمنا التاريخ أن نروي القصة جيلًا بعد جيل، لا كذكرى، بل كوثيقة إدانة حية تُسجل بأحرف من نار كل تفاصيل الجريمة.
يصرخ القلب حين يرى طفلًا يرتدي مريول المدرسة يُرفع من تحت الأنقاض، وتتشبث أصابعه بدفتر الحساب.
يُجرّدنا هذا المشهد من كل قدرة على التبرير، ويكسر فينا كل محاولة للتماهي مع دعوات “التوازن والحياد”.
يُعري الصورة الحقيقية، ويكشف وجه العدو كما هو: كيان لا يعرف للإنسانية معنى، ولا للطفولة حرمة.
يُربكنا حجم الألم، لكنه لا يُرهبنا. يُثقل علينا حمل الذاكرة، لكنه لا يكسرنا.
يُضيء الشهداء لنا الطريق، ويُحولون الحزن إلى إرادة، والبكاء إلى صرخة، والذكرى إلى سلاح من نوعٍ مختلف، سلاح لا يُشهر في وجه الأبرياء، بل يُشهر في وجه الأكاذيب والإنكار.
يُغني المصري عن القصاص ألف بيت من الشعر، لكنه لا يُغنيه عن الحقيقة. يُحب المصري السلام، لكنه لا ينسى.
يُربي أبناءه على التسامح، لكنه لا يعلمهم أن يقبلوا الذل. يُحسن الاستماع، لكنه يثور إذا ما اقترب أحد من كرامته أو دم أبنائه.
يرفض الوجدان أن يتقبل أن مدرسة تُقصف بطائرات، وطفل يُدفن تحت ركام كراسته، ثم تُمرر الحادثة دون حساب.
يفضح هذا الجرح كل دعاوى التحضر الزائف، وكل الشعارات المنمقة التي ترفعها قوى العدوان.
يُسقط كل أوراق التوت التي يُحاول بها العدو التستر خلف شعارات الأمن والدفاع عن النفس.
ينبعث من ركام بحر البقر صوتٌ لا يشيخ، ولا يختفي، صوت يلعن كل متخاذل، ويوبّخ كل من حاول أن يغلق صفحة الجريمة باسم “السلام”.
يواجهنا هذا الصوت بالحقيقة المجردة: لا عدالة دون اعتراف، ولا مصالحة دون محاسبة.
يصنع هذا اليوم فينا شيئًا مختلفًا، لا يضعفنا بل يُقوينا، لا يجعلنا نكره بل يُعلمنا أن نُحب بشروط العدل والكرامة.
يُلقّن أبناءنا درسًا لن يجدوه في المناهج: أن الطفولة لا تعني الضعف، وأن المدرسة ليست قلعة هشة، بل معقلٌ للحق.
يُحتم علينا الشرف ألا ننسى، وألا نغفر، لا لأننا متعطشون للانتقام، بل لأن الدم الذي سال في بحر البقر لم يكن دمًا عاديًا.
كان إعلانًا صارخًا بأننا نعيش في عالمٍ لا يزال فيه المجرمون يُفلتون من العقاب.
يُعلمنا هذا اليوم أن الطفل الشهيد أقوى من طائرة حربية، وأن دفتر الحساب أهم من صاروخ، وأن الصف الدراسي أشرف من قاعدة عسكرية.
يُعيدنا إلى جوهر إنسانيتنا، إلى حقيقتنا الأولى التي ترفض الظلم، وتكره العدوان، وتقدّس الحياة.
يجب أن تبقى بحر البقر في وجدان كل حر، لا كحدثٍ مأساوي، بل كنداء يقظ لا ينام، ودرسٍ خالد لا يُنسى.