مقالات وآراء

الدكتورة نادية المرشدي تكتب: التجارة العادلة بديلًا للتجارة الحرة

اتسم النظام الاقتصادي في مصر، على مدى عقود، بارتفاع معدلات الاستهلاك مقارنة بالإنتاج، نتيجة غياب رؤية اقتصادية شاملة ومتكاملة.

وقد أدى هذا الخلل إلى تفاقم الدينين المحلي والخارجي، بسبب عجز الإيرادات عن تلبية النفقات .. وربما يمكن تبرير هذا العجز لو أنه وُجِّه نحو استثمارات رأسمالية منتجة تسهم في بناء القدرات الإنتاجية،

وتراكم الثروة الوطنية. غير أن المشكلة الجوهرية تكمن في أن العجز استُخدم لتغطية أوجه إنفاق استهلاكي، لا استثماري.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أُطلق العنان للاستهلاك المفرط عبر سياسة استيراد غير مقيدة، جلبت إلى السوق المصري سلعًا رخيصة من دول منخفضة التكلفة الإنتاجية، تنتجها شركات متعددة الجنسيات.

وقد أدّى هذا التوسع العشوائي في الاستيراد إلى مزاحمة المنتجات المحلية، وإغلاق العديد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة، مما أضعف القطاع الصناعي الوطني بشكل كبير.

وقد تسببت سياسات “تحرير التجارة” في تعريض الصناعة المحلية لمنافسة غير عادلة، خاصة في ظل الأعباء الضريبية والرسوم المفروضة محليًا، مقابل تسهيلات غير محدودة للمنتجات الأجنبية.

والأسوأ من ذلك، أن الحكومات المتعاقبة لم تحرك ساكنًا، واستمرت في الالتزام باتفاقيات دولية أضرت بصناعاتنا المحلية، دون أن تسعى إلى تعديلها أو إعادة التفاوض بشأنها بما يخدم المصلحة الوطنية.

ويكفي أن نذكر أن التاريخ يشهد على أن جميع الدول المتقدمة استخدمت نهجًا انتقائيًا ومتدرجًا في تحرير أسواقها، مزج بين الحماية والدعم وتنظيم السوق.

ففي ثمانينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، أنقذت الولايات المتحدة صناعة الحديد والصلب لديها من خلال فرض قيود على الاستيراد، ورفع الرسوم الجمركية.

حتى إدارة الرئيس رونالد ريغان، التي كثيرًا ما تغنّت بالتحرير الكامل للأسواق، لم تسمح لقوى السوق بأن تعمل على إطلاقها، لأن ذلك كان يعني وقتها انهيار صناعات استراتيجية بأكملها، مثل السيارات والحواسيب والإلكترونيات.

أما في مصر، فقد اقتصرت جهود الحماية على مصالح شركات بعينها، مثل شركة “حديد عز”، حيث فُرضت قيود تجارية أدت إلى ارتفاع أسعار الحديد،

ما انعكس سلبًا على أسعار البناء والعقارات، دون أي دعم للصناعات المعتمدة على الحديد كمادة خام، والتي لا نزال نستورد معظم احتياجاتنا منها حتى اليوم!

إنني لا أدعو إلى الانغلاق الاقتصادي أو عزل أنفسنا عن العالم، بل أطالب بضرورة إرساء توازن حقيقي في علاقاتنا التجارية مع الدول الأخرى، بحيث تُبنى على المصالح المشتركة لا على التبعية.

وهذا يتطلب تنسيقًا أوسع مع دول العالم النامي، ومع شركائنا في منظمة التجارة العالمية، إلى جانب دعم ومساندة من المجتمع المدني العالمي، للانتقال من شعار “التجارة الحرة” إلى مبدأ “التجارة العادلة”.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى