مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: قطة بين الركام تبكي أمة خذلتها كل الدنيا

تتجسد المأساة كلما تحركت عدسة كاميرا بين ركام مدينة محطمة، ويبرز الألم عندما تتصدر الصورة مخلوقة صغيرة، قطة وحيدة، في عالم جردوه من كل معاني الرحمة.

تقف تلك القطة في قلب مشهد كابوسي، وسط أنقاض البيوت المهدمة، وأطياف الأطفال الذين كانوا يركضون في الأزقة قبل أن تحيلها آلة الحرب إلى رماد.

لم تعد الصورة مجرد لقطة عابرة، بل صرخة بعيون مخلوق خذله العالم، وتركه شاهدًا صامتًا على أفظع خيانة ارتكبتها الإنسانية في حق الأبرياء.

تصرخ الصورة في وجهي دون صوت، وتهز الوجدان دون أن تنطق بكلمة قبل أن أبدأ في تأملها، كما لو أن القط فيها لم يُخلق ليكون حيوانًا أليفًا، بل شاهدًا على مأساة تبتلع كل معنى للإنسانية.

يجلس هناك، وحيدًا، في وسط ركام مدينة كانت يومًا نابضة بالحياة، بين أحجار المنازل التي سقطت بصمت بعد أن مزّقتها آلة الحرب الإسرائيلية، وكأن نظراته تسأل، بمرارة تفوق كل وصف: “أين ذهبتم؟ لماذا تركتموني هنا؟”

يجرحني صمته أكثر من آلاف الصرخات .. يعاتبني، نحن البشر، على جبننا، على عجزنا، على صمتنا الذي يُسمع أكثر من المدافع .. لا يتحدث، لكنه يقول كل شيء .. لا يشتكي، لكنه يتوجع.

لا يسأل عن الطعام أو المأوى، بل يسأل عن الكرامة، عن الحُلم الذي سُحق تحت عجلات الاحتلال، عن الأطفال الذين اعتادوا اللعب في الشوارع وتحولوا الآن إلى أسماءٍ في نشرات الأخبار.

ترفض هذه القطة أن تكون مجرد ضحية أخرى .. تنظر في عدسة الكاميرا بثبات، ببراءة مغروسة في وجدانها، وكأنها تقف لتشهد على جريمة لم تكتمل بعد.

لا تحتاج الكلمات لتشرح ما فعلته صواريخ المحتل، ولا لِتُفسر كيف هدمت البيوت فوق رؤوس أصحابها، ولا كيف تحوّل كل شيء إلى كومة من الحجارة والرماد. الصورة وحدها كفيلة بفضح صمت العالم، وخنوعه، وتواطؤه.

يرتجف قلبي كلما نظرت إلى تلك العيون .. لا تحمل الخوف فقط، بل الخذلان .. كيف لعالم أن يصمت كلما تساقطت منازل فلسطين؟

كيف لحضارة أن تدّعي التقدّم بينما تعجز عن حماية طفل، أو حتى قطة؟ يقف القط هناك رمزًا، لا لكائن حي فقط، بل لوطن تم تجريده من كل شيء، حتى من الحنان.

تنهار الجدران، لكن الروح لا تنهار .. هذا القط لا يعرف السياسة، لا يفهم الحدود، لكنه يعرف أن هذا ليس مكانه، وأنه لم يُخلق ليعيش بين الحجارة المحطمة.

لم يفهم سبب فقدان عائلته، لكنه يشعر أن هناك خيانة كبرى حدثت، وأن العالم كله شارك في هذه الجريمة.

تُشعل هذه الصورة نارًا في صدري لا تنطفئ .. تغضبني، توقظني، تدفعني إلى أن أكتب لا لأصف فقط، بل لأصرخ، لأدين، لأطالب، لأقول بصوت عالٍ كفى .. كفى لهذا الصمت المهين .. كفى لهذا التجاهل البشع.

كفى لهذا الانحياز الذي يغض الطرف عن الجريمة لأنها لا تقع في مكان “مناسب” جغرافيًا أو سياسيًا. أين الضمير؟ أين الإنسانية؟ هل باتت أرواح الفلسطينيين أرخص من أن تُذكر؟ وهل صار مشهد القط وحده أبلغ من مئات التصريحات الباردة؟

ترفض روحي تصديق أن هذه الصورة حقيقية .. لكن الخراب واقعي، والدمار ملموس، والخذلان موثّق .. تخبرني هذه الصورة أن الزمن توقف هناك، في لحظة انفجار، وأن كل شيء بعدها صار هشًا، باهتًا، مكسورًا، كما الحجارة المتناثرة حول هذا القط الذي بقي حيًا ليس ليمشي، بل ليحرس ذاكرتنا.

تُربكني هذه الصورة .. تزلزلني .. تشعرني أنني عاجز أكثر من اللازم، متفرج أكثر مما يجب، وأقل إنسانية مما كنت أظن.

لماذا لا نتحرك؟ لماذا لا ننتصر للحق عندما يكون واضحًا كالشمس؟ لماذا نكتفي بالبكاء الرقمي، وبالبيانات الفارغة، وبالشفقة الوقتية التي لا تُطعم جائعًا ولا تُحيي شهيدًا؟

تُوقظ فيّ هذه الصورة شعورًا بالخزي .. كأنني ساهمت في الجريمة بصمتي، بتقاعسي، برضاي غير المباشر .. لا أستطيع النظر في عيني هذا القط دون أن أحس أنني مدان.

ليس لأنه ينظر إليّ بغضب، بل لأنه يعكس غضبي الداخلي، الذي ظل ساكنًا طويلًا حتى أفاق على صورةٍ تصفعني ولا تهمس.

تحطمت الجدران، لكن الروح الفلسطينية لا تزال واقفة، عنيدة، متشبثة بالحق رغم الدمار .. القط هناك ليس مكسورًا كما يبدو، بل واقف، متحدٍ، يقول بصمته إن الحياة لن تُهزم وإن بقايا الكرامة لا تزال حاضرة، حتى في عيون الحيوانات.

تكسر هذه الصورة كل قواعد الحياد .. تُجبرك على الانحياز .. لا يمكن أن تكون إنسانًا وتنظر إليها وتبقى في المنطقة الرمادية.

إما أن تكون مع الحياة أو ضدها .. إما أن تكون مع العدالة أو مع القتل .. إما أن تصرخ أو تظل شريكًا في الجريمة.

تُذكّرنا هذه الصورة أن الاحتلال لا يقتل البشر فقط، بل يطارد حتى أحلامهم، حيواناتهم، أرواحهم التي تسكن الزوايا.

لم يعد المشهد يحتمل تفسيرات سياسية، ولا محاولات تبرير .. الدم واضح، والدمار جلي، والاحتلال باقٍ كعار على جبين هذا العصر.

تحمل هذه القطة رسالة أقوى من كل البيانات الرسمية .. تقول بوضوح “أنا هنا، وسط الركام، لأذكّركم أن هناك من لا يزال ينتظر عدلكم المزعوم، وإنسانيتكم المفقودة“.

تمثل القطة – بلغة العيون لا الكلمات – سؤالاً لا يملك أحد إجابة له لماذا يصر البشر على سحق ما هو بريء؟ كيف يكون الاحتلال وحشيًا إلى هذا الحد، دون أن يجد من يردعه؟ ولماذا حين تكون الضحية فلسطينية، لا تُحتسب الأرواح، ولا تُذرف الدموع، ولا تُرفع الأصوات؟

تنقش هذه القطة اسمها في سجل الخالدين .. ليس لأنها أصبحت مشهورة، ولا لأنها مميزة، بل لأنها قالت لنا كل شيء دون أن تنطق.

صورتها لا تحتاج شرحًا، فهي خطاب بصري موجّه إلى القلوب قبل العقول .. كل حجر خلفها هو شاهد قبر. كل شعرة على جسدها المغبر تحكي قصة بيت دُمر، أو أسرة تشردت، أو مستقبل اندثر.

تنتهي الحروف، لكن الصورة لا تنتهي .. تبقى هناك، تطاردنا، تحاصرنا، تذكرنا بما تجاهلناه، بما لم نقله، بما لم نفعله.

لن أنسى هذا القط .. لن أنسى أنني صمتُّ يومًا بينما كان ينظر إليّ كمن يقول خذلتموني .. وتركتموني وحدي.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى