شباك نورمقالات وآراء

د أيمن نور يكتب: ورقة هامة من مذكّراتي..الصراع داخل قصر الاتحادية..الغرفة السوداء واللحظة “صفر”(8)

أخطر أشكال الصراع على الحكم في مصر، لم يكن مصدرها تحديًا، أو تهديدًا من خارج محيط القصر الرئاسي.

في العادة، يكمن الخطر في زوايا المؤسسة التي تحمي أسوار القصر، وتملك الانقلاب على الجالس داخله، بسحب الشرعية التي استند إليها في الوصول والبقاء في مقعده.

الرئيس الراحل محمد_نجيب، أول رئيس في تاريخ مصر، عاش ومات ضحية تآمر بعض تلاميذه الذين أتوا به إلى السلطة، ثم أقصوه في ١٤ نوفمبر ١٩٥٤، ووضعوه رهن الإقامة الجبرية لمدة ١٨ عامًا، واختفى بعدها عن الحياة، حتى وفاته في ٢٨ أغسطس ١٩٨٤.

التقيته مرة واحدة في مطلع عام ١٩٨٤، في إقامته الجبرية ببيت زينب_الوكيل بـ المرج، وتصورت يومها أنني سأخرج من اللقاء بأخطر حوار صحفي في بداية حياتي المهنية… وإذ بي أخرج ببضعة طلبات، كان أبرزها وساطة لإبنه يوسف، “سائق التاكسي الأجرة”، الذي فشل في الحصول على شقة من شقق الإسكان من محافظة القاهرة!!

فضلاً عن عدد من الحكايات المرتبكة عن الوفاة الغامضة لنجله فاروق في ألمانيا، بعد أن أجبره الضباط الأحرار على تغيير اسمه إلى صلاح_الدين!! وكذلك حكايات أخرى أكثر غموضًا عن وفاة ابنته سميحة.

في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي أحكم سلطته وقبضته على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، كان الخطر الحقيقي الذي واجهه بشدة وحزم ودم، هو تمرد صديق عمره ورفيق انقلابه على محمدنجيب، المشير عبدالحكيم_عامر، قائد الجيش ووزير الدفاع، الذي فقد حياته في هذا الصراع على السلطة، بعد أن تم “استنحاره” بالسم، يوم ١٣ سبتمبر ١٩٦٧، في مقر إقامته الجبرية في أحد منازل المخابرات بمنطقة المريوطية في الجيزة. ليسدل الستار عن أخطر صراع في تلك الحقبة التاريخية الصعبة.

أما صراعات محيط القصر في عهد الرئيس الراحل أنورالسادات، فقد تجلّت في أبلغ صورها في أزمته مع رفاق السلاح والدرب، الذين حاولوا خلعه ومحاصرة قصره، وكلفوا الليثي عبدالناصر الناصر، قائد الحرس الجمهوري وشقيق جمال عبد_الناصر، بالقبض على السادات.

فعاجلهم السادات باستخدام سلاح الحرس الجمهوري الذي كان من المفترض أن يتولى القبض عليه في بيته بالجيزة، فأمر بحملة على بيوت هؤلاء الوزراء والمسؤولين الكبار جميعًا في ذات الليلة، ليلة ١٥ مايو، وهو ما أسماه السادات بـ”ثورة التصحيح”.

والغريب أن الليثي عبد الناصر، الذي رفض تنفيذ المؤامرة، مات في ظروف غامضة في نفس المدينة: لندن… التي شهدت وفيات غامضة أخرى لـ سعاد حسني، وأشرف مروان، زوج هدى، ابنة عبد الناصر، وسكرتير السادات!

وليس بمستغرب أن ما فشل فيه الضباط الأحرار في زمن السادات، وخاصة محاولة توظيف الحرس الجمهوري للقبض على الرئيس في قصره الرئاسي، هو ما لم يفشل فيه قادة الجيش في يوليو عام ٢٠١٣، حيث تولى الحرس الجمهوري القبض على الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي، الذي فقد حياته -رحمه الله- في سجنه، الذي لم يبارحه منذ لحظة القبض عليه بمعرفة الفريق محمد زكي، قائد الحرس الجمهوري آنذاك، ووزير الدفاع حتى ٢٠٢٤.

في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، شهدت مصر تحديًا من الجيش ووزير الدفاع وقائد الأركان سامي عنان خلال الربع ساعة الأخيرة من وجوده في قصر الاتحادية.

لكن التحدي الأخطر والأكبر، كان التحدي الكامن خلف الستار، من داخل القصر الرئاسي، وليس من محيطه. وهو ما استمر يتصاعد في العقد الأخير من سنوات حكم مبارك الأب.

في سنواته الأخيرة، بدا الرئيس كمجرد ظل لنفسه. تقدّم به العمر، ووهنت صحته، وفضّل الانعزال في شرم الشيخ على البقاء في قصر الاتحادية بدا الفراغ الرئاسي واقعًا قبل أن يصبح رسميًا، وبدأت ملامح الحكم تنتقل من “الشخص” إلى “الظل”.

وكان لهذا الظل ثلاث زوايا: قاعدته سوزان مبارك، الضلع الثاني “الرئيس تحت الإعداد” جمال مبارك، أما الضلع الثالث فكان الكيان الأخطر… “الغرفة_السوداء”.

هذه الغرفة، غير الرسمية، لم تكن كيانًا دستوريًا، لكنها كانت كيانًا واقعيًا، يحكم من خلف الستار. ضمّت رجال السلطة، والمال، والإعلام، ممن عُرف عنهم الحماس لمشروع التوريث: أحمد عز، مفيدشهاب، عمادالدين أديب، محمد_كامل، وآخرين من أصدقاء نجل الرئيس ومريديه.

هذه الغرفة كانت تدير صراعًا مزدوجًا: سيناريو أول لنقل السلطة من الأب إلى الابن في حياة الرئيس، وسيناريو ثانٍ أكثر خطورة يُفعّل في حال غياب مبارك المفاجئ… اللحظة “صفر”.

السيناريو الأول اصطدم برفض المؤسسة العسكرية، وتحفظ النخبة الحزبية، وفتور حماسة مبارك نفسه لفكرة أن يُسلّم كرسيه لابنه قال لي يومًا كمال_الشاذلي: “جمال بدأ في نهاية التسعينيات يقول لي يا “أنكل كمال”، وبعد سنة أصبح يقول لي يا كمال بيه، وبعد عام آخر بدأ يقول (يا كمال)… وبعدها، طُلب منا أن نقف في طابور لمصافحته أثناء دخوله إلى الاجتماعات!”. لقد تغير الصبي، وتحول من ابن الرئيس… إلى من يتصرف كرئيس قبل أن يكون كذلك.

ولتمهيد الطريق دستوريًا، كان لا بد من تعديل المادة 76، لفتح باب الترشح من خارج البرلمان. لكن التجربة أثبتت أن السيطرة على البرلمان صعبة، فقد ترشّحتُ بنفسي لرئاسة المجلس، وحصلت على أكثر من ثلث الأصوات، وهو ما أسقط الرهان على ترشّح جمال مبارك مبارك عبر هذا المسار، كما تبنى حبيب العادلي وجود مرشح آخر غير مرشح الدولة، سواء كان مبارك الأب أو الابن.

دفعت عائلة مبارك بالرئيس نفسه لإعلان تعديل الدستور، رغم تصريحه السابق بأن مجرد التفكير في ذلك هو خيانة. وتم تعديل المادة بما يخدم فقط نجل الرئيس، فاشترط أن يكون مرشح الحزب الوطني عضوًا في الأمانة العامة منذ عام على الأقل، وهي أمانة شكّلها جمال نفسه، واستبعد منها الشخصيات المقربة من مبارك الأب مثل عمر سليمان وغيرهم من العسكريين.

هذا الشرط وحده كان كافيًا لاستبعاد كل الأسماء البديلة: عمر سليمان أحمدشفيق، عمرو موسى، كمال الجنزوري… لم يكن أيٌّ منهم عضوًا في الأمانة العامة، ولم يكن ثمة وقت لإضافتهم لاحقًا بسبب النص على حظر تعديل الدستور في حالة غياب الرئيس.

السيناريو الثاني، سيناريو “اللحظة صفر”، كان أكثر تعقيدًا. وقد حصلت على نسخة مسرّبة من أحد أعضاء لجنة السياسات، وكانت التفاصيل صادمة: عند غياب الرئيس، يُكلّف رئيس مجلس الشعب فتحي سرور بالرئاسة مؤقتًا، وإذا تعذّر، يتولاها ماهرعبد الواحد، رئيس المحكمة الدستورية العليا.

(وهو النص الذي فُعّل في ٢٠١٣ حين تولّى عدلي_منصور الرئاسة المؤقتة تَسَنُّدًا عليه)

في عام ٢٠٠٥، كان هذا الاختيار يخلق تضاربًا، لأن ماهر عبدالواحد، كان أيضًا رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية، ولا يجوز له الجمع بين المنصبين. فتم اقتراح اسم آخر: عادل أندراوس، المقرّب من سرور، لإدارة الانتخابات بدلاً من ماهر.

وكانت الخطة تقضي بإعلان موعد الانتخابات خلال ٤٨ ساعة، وتحديد أسبوع لجمع التوكيلات، و١٨ يومًا فقط للدعاية، في بلد مترامي الأطراف، فيه آلاف القرى والمراكز. وجميعها شروط أقرب إلى العبث، تمنع فعليًا أي مرشح جديد أو مستقل من الترشح.

السيناريو ذاته أُحكم بإغلاق كل الثغرات القانونية، فقد تم تعديل المادتين 82 و84 في 2007، لتحظر على الرئيس المؤقت تعديل الدستور، حتى لا يُفتح الباب لدخول منافسين أقوياء.

وكان اختيار مرشح الحزب الوطني مُعدًا سلفًا، وفي الغالب هو جمال مبارك لأن كل من في الأمانة العامة إما مقرب منه أو تابع له: صفوت الشريف، زكريا عزمي، أحمدعز، مفيد شهاب أنس الفقي، على الدين هلال وغيرهم.

أما من خارج الحزب، فلم يكن هناك سوى ثلاثة مرشحين محتملين، تنطبق عليهم شروط المادة 76: مرشح حزب_الغد (شخصي المتواضع)، ومرشح الوفد، ومرشح التجمع. حتى هؤلاء، كانت الأبواب تُغلق أمامهم واحدة تلو الأخرى.

وهكذا كانت الخطة: انتخابات في يوم واحد، بلا رقابة قضائية حقيقية، بلا منافسة فعلية، في مسرحية ديمقراطية بإخراج مشوّه، تنتج رئيسًا ورث السلطة عبر نصوص صيغت على مقاسه.

لقد كانت جريمة سياسية مكتملة الأركان، أُعدّت باسم الدستور، ومورست باسم الشرعية، واكتملت فصولها بما يشبه الخداع القانوني، لكن… غابت عن واضعيها احتمالية واحدة: هي الثورة.

ففي ٢٥ يناير ٢٠١١، لم يفعل الناس سوى أنهم اختاروا… أن يختاروا. بعيدًا عن مخططات الغرفة_السوداء و انقلاب الأسرة والقصر.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى