شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : ورقة من مذكّراتي الصراع على الرئاسة في مصر٢

سيارة متوقفة بشارع جانبي في منطقة “برقوق” القريبة من شارع صلاح سالم، كانت هي موقع اللقاء الذي طلبته مع المشير عبد الحليم أبو غزالة، صيف عام 2005، قبل شهور قليلة من أول انتخابات رئاسية مباشرة في مصر.

كان من المفترض أن يتم اللقاء في مكتب نجله أشرف، بعمارات العبور، لكن المشير قرر التعديل في اللحظة الأخيرة، دون تفسير، مكتفيًا بالانتقال إلى السيارة المتوقفة.

كان الحديث مختصرًا، لكنه حمل من الحكمة ما يستحق التوقف. فعندما عرضت عليه فكرة الترشح للرئاسة، لم يُبدِ دهشة من العرض، لكنه –ودون تردد– قال لي:
لماذا تزيح كهنة، لتأتي بكهنة جديدة؟

كانت الجملة كاشفة، لا تحتمل التأويل، وتختصر موقف رجلٍ اختار الصمت على الصدام، والظل على الصدارة.

في هذه الورقة من مذكراتي، أستعيد هذا اللقاء النادر مع الرقم الصعب الذي لم ينافس مبارك، لكنه ظل الحاضر الغائب في وجدان الدولة والشعب.

لم يكن حسني مبارك يرى في الحكم مشروعًا أو مسؤولية، بل ميراثًا يخصه، لا يجوز أن يقترب منه أحد، حتى لو كان صامتًا ووقورًا كمثل المشير أبو غزالة.

لم يكن أبو غزالة خصمًا سياسيًا بالمعنى المباشر، لكنه كان حالة من الثقل والقبول العام، كافية لإرباك أي حاكم. لم يُصرّح يومًا برغبة في الرئاسة، ولم يُلمّح، لكنه بقي عنصر قلق دائم لمبارك، خصوصًا بعد أن تصدّر المشهد في أزمة الأمن المركزي عام 1986، وأدار الدولة بمفرده تقريبًا لأسبوع كامل، بينما توارى مبارك عن الأنظار.

بعد تلك الحادثة مباشرة، بدأ الهجوم الناعم على الرجل. بدأت الشائعات تُبث حول حياته الشخصية. قيل إنه تورط في علاقة مع سيدة تُدعى “لوسي أرتين”، ثم تتابعت الاتهامات الأخطر.

أبرز هذه الاتهامات كانت تتعلق بمشروع تطوير صاروخي مشترك مع العراق والأرجنتين، عُرف لاحقًا باسم “مشروع الكوندور”، وهو مشروع طموح يهدف إلى تصنيع صواريخ باليستية متوسطة المدى، ذات قدرات استراتيجية، يمكن أن تُغير معادلة التسليح في المنطقة.

تم تسريب معلومات إلى الولايات المتحدة عن دور أبو غزالة في هذا المشروع، وتحديدًا عن محاولات تهريب أجزاء تقنية متقدمة من السوق السوداء، مثل أجهزة التوجيه والمكونات المعدنية الخاصة بالصواريخ، بالتعاون مع وسطاء في أوروبا الشرقية. وتضمنت الاتهامات أيضًا ضلوعه في إنشاء شبكة لوجستية تربط القاهرة ببغداد وبوينس آيرس.

في واشنطن، صُنّف المشروع كتهديد للأمن الإقليمي، وبدأت الضغوط تتزايد على نظام مبارك لتصفية هذه العلاقة. وفي القاهرة، استُخدمت هذه الاتهامات غطاءً لإقصاء الرجل، مع تغطية إعلامية مركّزة تخلط بين الحقيقة والتلفيق.

لم يُعرض على أبو غزالة التقاعد بكرامة، بل تم نقله إلى موقع “مساعد رئيس الجمهورية”، منصب غير دستوري، بلا صلاحيات، تمامًا كما لا مكان له في الذاكرة الرسمية.

لم يكن هذا القرار إلا عملية اغتيال رمزي لشخصية قادرة على القيادة، دون أن تطلبها.

ومع اقتراب أول انتخابات رئاسية مباشرة، وجدتني أبحث عن نموذج مختلف. شخص لم يتورط في فساد، ولم يتلوّن بمواقف، ولم يُنكر عليه الناس حُسن الأداء أو الوطنية.

رتّبت اللقاء. لم يكن رسميًا، بل خاصًا. لا قصر ولا مكتب، فقط سيارة متوقفة على الرصيف. رجلان، أحدهما في الأربعين، والآخر في الخامسة والسبعين، يتحاوران بهدوء عن بلد يتألم، ويبحث عن من يضمد الجراح، لا من يفتحها من جديد.

استمع إليّ كعادته، بهدوء لا يخلو من تركيز. ثم ابتسم ابتسامة مختصرة وقال:
“لماذا تزيح كهنة، لتأتي بكهنة؟”

لم أحتج مزيدًا من الكلام. كانت هذه الجملة الوجيزة خلاصة لموقفه من فكرة إعادة إنتاج السلطة بمنطق جديد، دون تغيير حقيقي في الأجيال أو المفاهيم.

خرجت من السيارة، أكثر يقينًا أنني التقيت برجل أكبر من المناصب، وأكبر من الصراعات. وقلت بعدها ما أدهش البعض:
“لست الأفضل لحكم مصر، لكني بالتأكيد أفضل من بين العشرة المطروحين، بمن فيهم مبارك الأب والابن.”

لم تجمعني بالمشير علاقة دائمة، لكنها كانت كافية لفهمه. لم يكن رجل سلطة، بل رجل موقف. لم يسعَ إلى الأضواء، ولم يهرب منها. وعندما عرضت عليه فكرة كتابة مذكراته –كما فعلت من قبل مع المشير الجمسي– رفض. قال لي:
“أفضل الصمت الآن… لا أحب أن أكون موضوعًا لكلام، أو سببًا لتوتر.”

كررت المحاولة لاحقًا، بعد أن عاتبني في مكالمة هاتفية على نشر خبر يتصل به في جريدة “الغد”، لكنّه أصر على الرفض.

ظلّ صامتًا، واختار أن يبقى بعيدًا عن المشهد، حتى بعد خروجه. لم يُكرَّم، لم يُسمَّ شارعٌ باسمه، لا مدرسة، لا قاعة، حتى في قريته بالبحيرة.

وعندما علمت أن المرض الذي أصابه كان سرطان الحنجرة، فهمت أن صمته الأخير لم يكن فقط اختيارًا… بل قدرًا.

وإذا كان أبو غزالة قد رفض الدخول في سباق الرئاسة، فإن المشهد لم يتوقف، بل بدأ يزداد تركيبًا وتعقيدًا. وظهرت وجوه جديدة –قديمة– تحاول الجمع بين رضا الداخل والخارج، دون أن تُظهر نية حقيقية للصدام أو الإصلاح.

أحد أبرز هذه الوجوه كان عمرو موسى… الوجه الذي يعرف أين يقف، ومتى يتكلم، ومتى يبتسم، ومتى يصمت.

في الورقة القادمة… نُكمل الحكاية، ونسأل السؤال الصعب:
هل التغيير ممكن من الداخل؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى