
لم يكن الهلال يومًا مجرّد تقويمٍ قمريّ، بل كثيرًا ما تحوّل إلى رمزٍ سياديّ، وساحةٍ لتصفية الحسابات غير المعلنة بين العواصم. ففي سنوات التفاهم الصامت بين القاهرة والرياض، كان العيد لا يُرى إلا بعين المملكة، كما لو أن الفرَح يمرّ أولًا من فوق الحرم، ثم يُوزّع على بقية العواصم، حسب درجة الانسجام أو الفتور بينها وبين الرياض.
لعقودٍ، حافظت مصر والسعودية على نوعٍ من “تقاسم التفويض”: للدولة السعودية الصوت الديني في الإقليم، بما يحمله من قداسة ومكانة روحية، بينما احتفظت مصر لنفسها بمكانة “العرّاب السياسي”، ومرجع الملفات الكبرى في العالم العربي، من بيروت إلى الخرطوم. علاقة لم تُوثّقها معاهدة، ولم تُعلنها البيانات، لكنها كانت قائمة ومفهومة.
لكنّ هذا التفاهم الهش، كان دومًا عرضة للغيوم. في زمن عبدالناصر، خيّم الخلاف الأيديولوجي بين القومية والملكية على الأفق، فانعكست حتى على مواقيت العيد. وفي سنوات السادات، كانت “كامب ديفيد” كفيلة بجعل رؤية الهلال من القاهرة والرياض غير متزامنة، لا بحساب الفلك، بل بمقياس السياسة. وحده مبارك، ببرود دبلوماسي محسوب، حافظ على قدر من “التناغم الموسمي”، وكأن الهلال خطٌ أحمر لا يجب أن يُختلّ، مهما اختلّت موازين السياسة.
لم تكن المغايرة في “رؤية الهلال” حكرًا على مصر والسعودية. ففي ربيع 1984، أعلن العقيد القذافي رؤيته الشخصية للهلال، رغم أن الجهات المختصة في ليبيا أكدت استحالة رؤيته، فقط نكاية في المملكة. كانت لحظة عبثية، لكنها تعبّر عن منطقٍ لطالما ساد في بعض الأنظمة: “نرى ما نريد أن نراه، لا ما يُمكن أن يُرى”. هذا النمط تكرّر كثيرًا في إيران، التي اختارت مرارًا إعلان الصيام أو الإفطار على خلاف ما أعلنته الرياض، وكأن الهلال أداةٌ لتأكيد الهوية السياسية قبل أن يكون ظاهرة فلكية.
أما سوريا، فكانت لها قصتها الخاصة. لم يكن الهلال يُرى بالعين، بل يُرى بالرأي السياسي. كما أخبرني أحد رجال الدين الكبار ممن تولّوا الإفتاء في عهد بشار الأسد: “نحن لا نتحرّى الهلال… نحن ننتظره من القصر الجمهوري”. كان الموعد يُرسل، فيُبلغ، فيُعلن… وتنتهي المسألة.
الجديد هذه المرة، أن الخلاف في إعلان رؤية هلال شوال بين القاهرة والرياض لم يكن مجرد “فارق توقيت”، بل بدا وكأنه مؤشر على أزمة مكتومة بين العاصمتين. فمصر، التي تشهد انكماشًا في دورها الإقليمي، لم تعد ترحّب بالتمدد السعودي الذي صار يتسع لأكثر من مشهد: من اليمن إلى سوريا، ومن السودان إلى غزة، وبغطاء أمريكي معلن. وفي المقابل، لم تعد المملكة ترى ضرورة للتنسيق مع “الزعامة القديمة”، ما دامت تمتلك المال، والإعلام، والدعم الغربي، و”رؤية” تقول إنها تقود التغيير.
هذه ليست المرة الأولى التي يتحوّل فيها الهلال إلى “بيان سياسي غير مكتوب”. ففي 2006، اختلفت المغرب مع الجزائر حول موعد بداية شهر رمضان، فاختارت كلٌّ منهما يوماً مختلفاً، على وقع التوتر السياسي المزمن. وفي 2011، عقب الثورة التونسية، خرجت دار الإفتاء في تونس بقرار “مغاير” لرؤية الهلال عن أغلب الدول العربية، في لحظة رمزية لتحرير القرار الوطني من التبعية الرمزية. وفي كلّ مرة، كان الهلال مرآةً لما خفي من أزماتٍ لا تُقال.
حين تختلف العواصم في “رؤية الهلال”، فلا تسأل عن الغيم… بل ابحث عن الخلاف، والغيم السياسي.