د. أيمن نور يكتب : هل تُصدّق؟ حزب شيوعي في أمريكا!

كأنك تصحو على عنوان من رماد الحرب الباردة، أو تسمعه همسًا في فيلم تجسس كلاسيكي يعرض على شاشة بالأبيض والأسود… “حزب شيوعي في أميركا”! ليس نكتة سياسية متأخرة، ولا عنوانًا ساخرًا من بقايا الستينيات. بل حكاية حقيقية، موثقة، ومقصية عمدًا. أعاد كشفها، لا صحفيًا فحسب، بل شاهدًا على الحكاية، وصديقًا صدوقًا للمهنة والحرية… هو الأستاذ الكبير يحيى غانم، رفيق المهنة منذ أربعة عقود، وبوصلة لا تخطئ في زمن الضباب.
في سلسلة “المنطقة الرمادية” التي ينشرها على منصة الجزيرة نت، يفاجئنا غانم بحوار بالغ الأهمية مع جو سيمز، الأمين العام للحزب الشيوعي الأميركي، في لحظة تبدو فيها الحقائق أشبه بالأساطير، ويبدو النطق بكلمة “شيوعية” في الولايات المتحدة كمن يشعل فتيل قنبلة صوتية في قاعة بورصة.
يكشف الحوار أن هذا الحزب لم يولد في دهاليز موسكو كما يروّج خصومه، بل خرج من رحم أميركا نفسها، من عرق الطبقة العاملة التي قاتلت في زمن الحرب الأهلية، حيث حمل أحد جنرالات الشمال رسائل كارل ماركس في جيبه، وقاتل بها العبودية قبل أن تعرف أميركا نفسها طريقها إلى العدالة.
لكن الرياح التي حملت الحلم، سرعان ما انقلبت عليه… فعندما أطلق تشرشل صفارة بداية الحرب الباردة عام 1946، لم تكن المكارثية مجرد حملة، بل كانت محكمة تفتيش جديدة. أُطلقت الكلاب البوليسية على الحزب، وبدأت مطاردته في النقابات، وعلى خشبات هوليوود، وداخل البيوت والمدارس، وفي فم كل من ينطق بـ”العدالة الاجتماعية”.
لم يكن الحزب وحده من دُفع إلى الظل. فحتى مناضلون مثل مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس والفهود السود، تعرّضوا لنفس المقصلة… تحت إدارة جهاز FBI الذي صنع منه إدغار هوفر ليس مجرد جهاز أمني، بل مصنعًا للرعب، ومؤسسة ضد الحلم.
ومع ذلك، لم يُهزم الحزب. لم يرفع الراية، بل صنع منصاته، كتب، وأصدر صحفًا، ثم جاء زمن المنصات الرقمية، فاستعاد شيئًا من صوته، وإن بقي الصوت محاصرًا بخوف الناس من الكلمات، لا من المعاني.
أخطر ما يكشفه جو سيمز لا يتعلق بالقمع البوليسي، بل بالقمع الرمزي: أن يُصوّر الحزب كدخيل، كعدو للديمقراطية، كشيء خارج عن “الطبيعة الأميركية”. بينما الحقيقة، كما يقول، أن الحزب ولد في أميركا، ومن أميركا، ضد الجشع، مع الكرامة، ومن قلب الإنسان العامل، لا من أوهام المستورد.
بعد عقود من محاولات اختراق الحزب الديمقراطي من الداخل، يخرج الحزب اليوم إلى السطح من جديد، ويعلن أنه لم يمت، بل نُفي. آخر رموزه كانت الأيقونة أنجيلا ديفيس، ورغم التهميش والترهيب، لم تختفِ بلورته، بل بقيت تُلمع من بعيد.
ويضع سيمز إصبعه على جوهر الخلل: أن النظام الانتخابي الأميركي نفسه ملوّث بالمال السياسي. فبموجب قانون “المواطنون المتحدون”، لم تعد الانتخابات ديمقراطية، بل بورصة مفتوحة، يتصدرها من يملك، لا من يستحق. وقد كان مشهد تنصيب ترامب تجسيدًا فجًّا: مليارديرات على المنصة، وعمّال في الظل… ذهب بلا عرق، ومقاعد بلا شرعية.
لم يكن حوار سيمز ترديدًا لنص أيديولوجي. بل كان شهادة من أميركا المنفية، أميركا التي لا نراها في نشرات الأخبار، ولا يسمعها من تعوّد على صخب السطح. أميركا التي لم تتخلَّ عن حلمها، لكنها خُدّرت بأوهام الحلم الأميركي.
أما يحيى غانم، فقد فعل في هذا الحوار ما لا يجرؤ عليه كثيرون. أزاح الغبار عن وجه نُسي عمدًا، وأعاد طرح سؤال الحقيقة في مواجهة التزوير. كشف عن أميركا التي تطارد من يرفع صوته بالحق، لا من يشهر سلاحه… عن أميركا التي تخاف من فكرة، أكثر مما تخاف من رصاصة.
فهل تُصدق؟ في بلاد تُسمّى “أرض الحريات”، ما زال هناك من يُلاحق لأنه يؤمن أن الخبز والكرامة والعدالة… حق لا امتياز، ووعد لا منّة، وغاية لا تهمة.