شباك نور

د.أيمن نور يكتب: قراءة في الزيارة ومزاد الوكالة

بعد “الترليونات”(مصر وفلسطين)ثمنا في مزاد ترامب السلطة موضع خصومة، والوطن موضع خطر…فلنُعلّق الخلاف لمواجهة الخطر،ولتبدأ السلطة بنفسها.
نعارض النظام بشدة.ونساند الوطن بشرف. كجبهه ولو من خنادق متقابلة.فعندما تطول النار ثيابنا.وامتنا.لافرق بين معارض وموالي، لا حياد في معركة مصير، ومن لا يرى النار، فاقد للبصيرة

ربما أكون – لأول مرة – متعاطفًا، بل ومُشفقًا… على الرئيس عبد الفتاح السيسي.
نعم، أقولها بلا تردد، وربما بمرارة، متوقّعًا سيلًا من الظنون والشكوك، ووابلًا من النيران الصديقة التي قد لا تستوعب أن موقفي هذا ليس دفاعًا عن شخصه، ولا تبدلًا في موقفي المبدئي من نظامه وممارساته وإخفاقاته، بل إدراكًا لحجم الضغوط الخطيرة التي تتعرض لها مصر، من مثلث الرعب، الذي يبدو على سطحه وفي قلبه: إصرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وخلفه رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، على تمرير مشروعهما لتصفية القضية الفلسطينية، وتحويل غزة إلى عبء ديموغرافي يُلقى على كاهل مصر، لا على الاحتلال الذي دمّرها، وأهلك أرضها وأهلها.

نحن أمام مزاد علني صادم، ومشروع مرتبك، يسعى ترامب لتفويض أطراف إقليمية بإنجازه، ويدفع ثمنه شعوب وأمم، ربما يكون الشعبان المصري والفلسطيني أول الخاسرين والمستهدفين في هذا المزاد الترمبي الصهيوني بامتياز. فبين التفويض والمزاد… تتلاشى حدود السيادة، وتتشابك خيوط المؤامرة.

بدرجة أقل، وأكثر ذكاءً، تأتي القيادة السعودية الشابة، بكل طموحاتها المتضخمة، ساعية للحصول على تفويض استراتيجي من إدارة ترامب الجديدة – القديمة، لإعادة رسم خريطة المنطقة، وصياغة التوازنات، حيث لا ترى في القاهرة سوى عبء ينبغي التخلص منه، أو على الأقل تهميشه وتحجيمه. فالدور الإقليمي المصري في نظر الطامحين بات وجب تقزيمه، وربما إزاحته من المشهد برمّته، لصالح مركز جديد يسوّق لنفسه كبديل أكثر “مرونة” وقدرة على تلبية استحقاقات الشراكة – أو بالأصح – على القيام بمهام العضو المنتدب (CEO) في الشركة التجارية الترمبية القابضة.

غير أن الخطر الأشد ربما لا يأتي من الرياض، ولا حتى من مشروع واشنطن… بل من أبوظبي، الطامحة لتعطيل المشروع السعودي بأي ثمن، لإنقاذ نفسها من تبعاته عليها. فالمشروع الإماراتي التوسعي بات يتصادم علنًا مع الرؤية والنفوذ السعودي، في مصر والسودان وليبيا واليمن وسوريا ومنطقة الخليج العربي. وهذا ما دفع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، مدفوعًا بمخاوف حقيقية، إلى الدخول بكل ثقله في ساحة المزاد الترمبي من أوسع أبوابه.

زيارة طحنون بن زايد الأخيرة إلى واشنطن، والتي أعلنت فيها دولة الإمارات عن استعدادها لضخ استثمارات بقيمة تريليون وأربعمئة مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، فاق عرض السعودية، ويكشف عن رغبة معلنة في أن تكون أبوظبي – ومن خلفها من خلفها – “الوكيل المعتمد” لإدارة المنطقة، بأي ثمن، وبأي وسيلة، حتى لو تطلب ذلك ترتيبات تتجاوز الاقتصاد إلى النفوذ السياسي الكامل.

العرض الإماراتي يتكئ على قدرة أبوظبي الفعلية في ممارسة الضغط على مصر، عبر نفوذ اقتصادي وسياسي وإعلامي متغلغل منذ العام 2013، وتزايد بشكل مضطرد في السنوات الأخيرة، خاصة بعد شراء رأس الحكمة وغيرها من المواقع الاستراتيجية في الاقتصاد المصري، ما يجعل من الضغط الإماراتي تهديدًا حقيقيًا لا يمكن تجاهله.

هكذا، وببساطة، تحوّلت القاهرة إلى هدف مباشر لهذا الابتزاز المركب متعدد الجنسيات. فلم يكن غريبًا – بعد ساعات من عودة طحنون بن زايد من البيت الأبيض – أن تأتي زيارة محمد بن زايد إلى القاهرة، محمّلة برسائل غير معلنة، لكنها مفهومة.
البعض ربط زيارة بن زايد بالتطورات في السودان، خصوصًا مع اقتراب انتصار الجيش على ميليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتيًا، لكن مصادر متواترة وتقارير صحفية، خاصة من “العربي الجديد”، أكدت أن هدف الزيارة الأساسي كان توصيل رسالة مباشرة إلى الرئيس المصري مفادها: إما القبول بنقل مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى سيناء، مقابل تعويم مالي، أو مواجهة الحرمان والدعم المشروط والضغوط الدولية المتصاعدة.

المال مقابل التهجير… إنها صفقة عار، ملوثة بالدم. المعادلة ليست أكثر من رشوة سياسية تقدم على طبق من الألم الفلسطيني، ولا تليق بمصر، ولا بتاريخها، ولا بموقعها الجيوسياسي. وهي تتصادم مع كل استحقاقات أمنها القومي والإقليمي.

ما يُروّج له من “خطة طوعية” لتوطين أهل غزة هو تزوير لغوي لجريمة تهجير قسري تُعيد إنتاج نكبة جديدة، ولكن هذه المرة بأيادٍ عربية.

بالتزامن، جاءت رسالة أكثر صراحة من واشنطن، على لسان المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي صرّح لقناة فوكس نيوز بأن مصر باتت “الرجل المريض في الشرق الأوسط” – تعبيرًا استعاره التاريخ لوصف أفول الدولة العثمانية. إنها رسالة واضحة بأن النظام المصري لم يعد ضمانة، وأن القاهرة في نظر الإدارة الأميركية تفقد دورها القيادي، وتغرق في تآكل مؤسسي حاد.

تصريحات ويتكوف ليست زلة لسان، بل تعبير عن حالة سياسية كاملة، ترى في النظام القائم عبئًا استراتيجياً، وتبحث عن بدائل، في الوقت الذي تتزاحم فيه العواصم الخليجية لنيل رضا واشنطن عبر التنافس على من يدفع أكثر.

نعم، مصر تمر بأزمة حادة، لكن التاريخ والجغرافيا يؤكدان أن مصر تمرض… لكنها لا تموت. شريطة أن تحسن إدارة لحظة الوعي، وتستجيب بنديّة، لا بتبعية.

بيان الهيئة العامة للاستعلامات وتصريحات الرئاسة المصرية التي تؤكد رفض خطط التهجير تستحق الإسناد لا التشكيك. وإذا قررت الدولة أن تصمد أمام هذه الضغوط، فنحن معها، لأن الموقف ليس سياسيًا، بل وطنيًا، ولأن التهديد لا يستهدف السلطة، بل الأرض والهوية.

رسالتي ليست للنظام، بل للجماعة الوطنية المصرية، وللنخب الديمقراطية في العالم العربي: اللحظة فارقة، والموقف لا يحتمل الاصطفافات التقليدية، فالوطن في خطر.

وكما علّمني أستاذي الراحل فؤاد سراج الدين: “من العار أن نؤيد ما ينبغي أن نعارضه، ومن المؤسف أن نعارض ما ينبغي أن نؤيده.” فهناك لحظات يجب فيها أن نعارض بكل ما أوتينا من قوة، وأخرى يجب أن نُغلّب فيها ما ينبغي تغليبه حين تكون مصلحة الوطن فوق كل الحسابات.

مصر ليست للبيع… وفلسطين ليست صفقة. وإذا كان البعض يتبارى في مزاد الوهم، فعلى مصر أن تتمسك بثوابتها، بتاريخها، بأرضها، وحدودها، وكرامتها.

من يُساوم على فلسطين يخسر نفسه، ومن يضع بلده على طاولة المفاوضة لا يملك الحديث عن الوطنية. أما من يُدافع عن هذه الأرض، وهذا الحق، فنحن معه… حتى وإن اختلفنا معه ألف مرة، من قبل… أو من بعد.

وختاما
أقول لكل من سيبادر بنقد مثل هذا الموقف بمجرد ان يقرأ عناوين المقال، ربما التمس لكم بعض العذر لكن المواقف الوطنية والسياسية عامه مرهونه دائما بمتغيرات اللحظة، والمكان، والموقع ،الذي يقف فيه السياسي جميعها معايير موضوعية هامة في تحديد موقفه الواقعي والمسؤول،
وهنا أضرب المثل بالزعيم مصطفى النحاس عندما وقع على معاهدة 1936 قائلًا: “من أجل مصر، وقّعت معاهدة 1936”، ثم عاد في أكتوبر 1951، وبعد سنوات طويلة من الدفاع عنها، وألغاها، قائلًا: “من أجل مصر، وقعت على المعاهدة، ومن أجل مصر أُلغي معاهدة 1936”.

هذا الموقف يبرز أهمية التوقيت والظروف في تحديد القرارات والمواقف السياسية، حتى وإن بدت للبعض من السطحيين متناقضة، فإن المتغير الحقيقي هو الزمن والسياق، وليس الشخص أو الموقف، او المبدأ.

نحن مدعون دائمًا للتفكير في بناء “مساحات مشتركة” ولو بدت رمادية، فهي تتجاوز الخلافات السطحية.
ونحن هنا نتحدث عن الجميع من هم في السلطة او في المعارضة فالسياسة ليست مجرد تحركات عشوائية وصرخات وشتائم وانفعالات عصبية وتعميم سطحي، وإصدار أحكام جزافية، فالسياسة هي أداة للتعاطي مع الواقع الراهن و لبناء المستقبل، من خلال فهم التفاصيل الدقيقة، والمتغيرات الدائمة، لكل فكرة وخطوة، ومدى خطورة تبنيها أو إهمالها.
إن هذه القيم تتناغم مع دعوات مفكرين مصريين سابقين، مثل طه حسين، الذي دعا إلى التفكير الحر والتحديث العقلاني في السياسة، وسعد زغلول، الذي أكد على التوازن بين السياسة والمصالح الوطنية، مشددًا على استخدام الحكمة والعقل في رسم السياسات.

أحيانا يجب تجاوز قيود القبيلة الأيديولوجية لتقديم رؤية متكاملة تتجاوز التحديات الآنية والمقولات المعلبة، مستشرفًين مستقبلًا أكثر نضجًا وتوازنًا، وهو ما فعله القادة والمفكرون الذين حملوا راية الفكر والسياسة في تاريخنا المصري والعربي.

نعم… ربما كان لدي تحفظات على نهج السلطة ولازالت، لكننا لا يجب ان نتوقف فقط أمام الأفكار المتداولة عبر السوشيل، والترند اليوم وتوقف عن اللهاث خلفها ،فكثير منها يحتاج إلى تأمل عميق لفهم ما وراءها. الهدف من السياسة هو بناء الثقة وتحسين واقع الشعوب، وليس السعي للبقاء في السلطة أو المعارضة او التلاعب بالمشاعر عبر شعبويه تافهه.

احترم كل الأصوات المخلصة أو تلك المزايدة،
ولا ألوم على من ما زالوا يتبنون أفكارًا بعيدة عن الواقعية السياسية. فرغم نُبل مقاصد بعضهم، تبقى هذه الأفكار أسيرة لحظتها، غير قادرة على مواكبة التحديات المتجدده، وصالحة للاستهلاك فقط على منصات السوشيال ميديا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى