شباك نور

د.أيمن نور يكتب: متى تنتخب مصر محلياتها؟ حين تقرر الدولة أن تسمع صوتها لا صداها

بلدٌ يتقن فنّ التأجيل، ويتعامل مع الاستحقاقات الدستورية كأنها بنود اختيارية في كتالوج الحكم. سؤال «متى تنتخب مصر محلياتها؟» يظل معلقًا بين برلمان لا يقرر، وحوار وطني لا يُفضي، وإرادة لا تُعلن.

سبعة عشر عامًا مضت على آخر انتخابات للمجالس المحلية. مشهد 2008 لم يكن انتخابًا بقدر ما كان استعراضًا للهيمنة الحزبية، والتزوير، والإقصاء الممنهج. تلك كانت آخر مرة يُسمح فيها للمواطن بأن يتوهم المشاركة، قبل أن يُغلق الباب تمامًا، وتُعلن نهاية زمن المجالس المنتخبة.

يناير لم يكن مجرد ثورة، بل نداء من القاع نحو القمة. محاولة جادة لتوزيع السلطة، وردّها لأصحابها الحقيقيين. المجالس حُلّت، والجمهورية وُعدت بتجديد قواعدها. لكن الملف طُوي، والتغيير ظل مرهونًا بالكلام دون التنفيذ.

دستور 2014 لم يترك مجالًا للبس. المادة 180 ألزمت الدولة بإجراء الانتخابات المحلية، وبتشكيلها عبر التمثيل النسبي، وضمان تمثيل الفئات المهمشة. نص واضح لا يحتمل التأجيل، ومع ذلك ظل معلقًا، كأننا أمام نصوص للتجميل لا للتفعيل.

تجارب العالم لم تتردد. تركيا صنعت من البلديات منصة لصعود سياسي حقيقي، وكان رجب طيب أردوغان نفسه رئيسًا لبلدية إسطنبول قبل رئاسته للدولة. فرنسا ترى في المحليات جوهر الجمهورية، وألمانيا تمنح لبلدياتها صلاحيات تشريعية ومالية تفوق ما لدى برلمانات عربية. حتى المغرب وتونس يواصلان دورات الانتخابات المحلية رغم صعوبة اللحظة.

حديث التنمية لا يكتمل دون لامركزية. مجالس معينة، بلا صلاحيات، لا تصنع تقدمًا، بل تعيد إنتاج الجمود. القرار ما زال يُصاغ في العاصمة، والمواطن ما زال يتلقى التعليمات من بيروقراطيات لا تسمع صوته ولا ترى ملامحه.

مشهد الحكم يُدار بعقلية المركز. مشاركة المواطن تُرى كتهديد، لا كشراكة. انتخاب مجلس محليّ يتحول إلى سؤال أمني لا استحقاق دستوري. السلطات تخشى أن يُحاسَب مسؤول على إنارة شارع أو رصف طريق.

مجالس بلا محاسبة، لا تُنتج إلا مزيدًا من الفساد والإهمال. مجالس حقيقية قادرة على الرقابة تُعيد للمواطن إحساسه بالقيمة والدور. وتلك هي الديمقراطية حين تكون فعلاً لا شعارًا.

قانون جديد لا يُجدي دون إرادة جديدة. كل حديث عن التطوير يظل عبثًا إذا ظل المواطن مقصيًا من إدارة شؤونه المحلية. القرى، النجوع، الأحياء، تستحق أن تمثل نفسها، لا أن تُدار بالأوامر من فوق.

حوار وطني لا يبدأ من الشارع المحلي، لا يسمع إلا نفسه. دولة لا تثق بمواطنيها في اختيار أبسط ممثليهم، لا يمكن أن تبني دولة حديثة أو مجتمعًا حرًا أو حكمًا رشيدًا.

مواسم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تتوالى. أما المحليات، فتُترك معلّقة في فراغ زمني، كأن الدولة لا تريد لأحد أن يقترب من القرار المحلي، حتى وإن كان لصالح حارة، أو مصلحة، أو مدرسة.

متى تنتخب مصر محلياتها؟
عندما تدرك أن صوت المواطن في شارعه أهم من التصفيق في قاعاتها، عندما تفعل نصوص الدستور، لا تجمّلها، عندما تقرر أن تكون دولة ناسها، لا دولة سلطتها.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى