مقالات وآراء

محمد خليل برعومي يكتب: في اعتقال الغنّوشي وأزمة العقل السياسي العربي

اعتُقل قبل عامين رئيس البرلمان التونسي وزعيم حركة النهضة، راشد الغنّوشي، بتهمة التحريض على الاقتتال وتهديد الأمن العام، إثر تصريح أدلى به في مسامرة رمضانية (2023)، نظّمتها جبهة الخلاص الوطني، حذّر فيها من مخاطر الانقلابات وانعكاساتها في الواقع السياسي والمجتمعي، ولحقت به بعد ذلك تهم أخرى في ما يعرف بـ”ملف أنستالينغو”، وتعود القضية إلى سبتمبر/ أيلول 2021 حين داهمت الشرطة مقرّ الشركة في محافظة سوسة، وهي شركة متخصّصة في صناعة المحتوى والاتصال الرقمي، وفتحت النيابة العمومية تحقيقاً ضدّ عدة أشخاص في اتهامات تتعلّق بارتكاب جرائم غسل الأموال، والاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة، وحمل السكّان على مواجهة بعضهم بعضاً. قرّر الغنّوشي مقاطعة جلسات التحقيق، التي اعتبرها صوريةً، ورفض المثول أمام القضاة في غياب ضمانات المحاكمة العادلة، لتُصدر فيه أحكاماً تتجاوز 20 عاماً.

لم يكن زعيم حركة النهضة من دعاة العنف والصدام أو التحريض على الدولة ومؤسّساتها، بقدر ما تثبت خطاباته وكتبه وسياساته التي قاد بها حزبه، ونهجه الذي شارك به في إدارة الحكم في مراحل مختلفة بعد ثورة 2011، أنه رجل حوار، يميل إلى التوافقات، خاصّة في اللحظات التي تطغى فيها الانقسامات والاستقطاب بين مكوّنات المشهد الوطني. سعى الغنّوشي في عشرية الديمقراطية التونسية إلى ترسيخ خطاب وطني جامع، تجاوز به حدود الأيديولوجيا والمرجعيات الضيّقة، إلى رحابة المشترك، وكسر به حواجز التنظيمات الشمولية ومنهج الجماعة ليفتح طريقاً أمام التجديد التنظيمي والفكري في بنية العقل السياسي الإسلامي، وهو ما عرّضه لاتهامات إلى حدّ التكفير من التيّارات المتشدّدة، وتجسّد خطابه التشاركي في تشكيل حكومة الترويكا، في إثر أول انتخابات شهدتها تونس بعد الثورة عام 2011، ثمّ في التنازل عن الحكم، وتشكيل حكومة تكنوقراط توافقية، في إثر أزمة حادّة قسّمت الساحة السياسية عام 2013، تلت أحداثاً إرهابيةً أودت بحياة المعارض اليساري شكري بلعيد (6 مارس/ آذار 2013)، ثمّ بحياة المعارض القومي محمد البراهمي (25 يوليو/ تموز 2013)، بيد عصابات تكفيرية. وقد تزامنت هذه الأحداث مع انقلاب مصر، الذي كانت تداعياته قويةً في تونس، ومحفّزةً لبعض التيّارات إلى محاولة استنساخ التجربة، إلا أن عقلانية الغنّوشي ومرونة حزبه قطعت الطريق أمام المتربّصين بالتجربة الديمقراطية.

وسط تصاعد خطاب الثورة المضادّة، وانتكاسة الثورة في مصر، وتأزم الأوضاع في كلٍّ من ليبيا وسورية واليمن، قام الغنّوشي بخطوة إلى الوراء لحماية تونس من ارتدادات “الربيع العربي”، والتقى الزعيمَ الدستوري (نسبة إلى الحزب الدستوري الذي حكم تونس عقوداً) الباجي قائد السبسي، وزعيم طيف واسع من المعارضة الليبرالية والعلمانية، لينتج عن اللقاء الذي عقد في العاصمة الفرنسية باريس اتفاق بين الزعيمين على التهدئة السياسية، وتعديلات في شروط سنّ الترشّح للانتخابات الرئاسية. سمّي الاتفاق بعد ذلك بـ”توافق الشيخَين”.

كما مثّل دستور 2014، المنبثق من المجلس التأسيسي، الذي كانت كتلة حركة النهضة صاحبة الأغلبية داخله، تعبيراً جادّاً عن نضج التيّار الإسلامي التونسي في تصوّراته للدولة المدنية بمفهومها وآلياتها الحديثة، وللمجتمع بما هو فضاء مشترك تعدّدي، فكان الدستور الذي نال تصويتاً بالأغلبية المطلقة من أعضاء المجلس، ميثاقاً وطنياً جامعاً، شدّد على فصل السلطات، حتى لا يستبد فرد أو حزب بالدولة، ووسّع باب الحرّيات، وضيّق مجالات تدخّل السلطة فيها، وضمن للمرأة مكانتها شريكاً رئيساً في بناء المجتمع والدولة، وأفرز هيئات مستقلّةً إدارياً ومالياً عن السلطات التنفيذية في شأن الإعلام والانتخابات وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة ومكافحة الفساد.

لم يكن الوصول إلى النسخة النهائية من دستور 2014 في تونس بالأمر اليسير وسط أوطانٍ عربية تنزف شعوبها دماً لاستكمال ثوراتها أو استرجاعها، وبين فتنٍ وألاعيبَ داخلية وضعت النهضة وزعيمها بين فكّي التطرّفَين الديني والعلماني، المتحالفَين ضمنياً مع عودة الاستبداد، ما جعل من التوافقات مع الأحزاب والتيّارات الديمقراطية الوطنية (ليبرالية ويسارية)، والتفاعل مع اقتراحاتها ومطالبها، مخرجاً من عنق الزجاجة، ومتنفّساً للمسار الديمقراطي. لقد كان للتجربة الديمقراطية في تونس هَناتها ونقائصها، إذ لا يخلو نظام سياسي أو تجربة حكم من الأخطاء والثغرات، كما أن المتفرّج فارس، كما يقول المثل، ولكنّ واجب الموضوعية في الحكم (والتقييم) على مسار البناء الديمقراطي التونسي، الذي كان التيّار الإسلامي شريكاً أساسياً فيه (وقائداً له) في فتراتٍ، وضع الأحداث في سياقاتها الوطنية (سياسياً ونقابياً وبيروقراطياً) والدولية (تشويه الثورات وتعطيل التغيير). ومع ذلك، لا تسقط المسؤولية السياسية عن أيّ مسؤول أو جهة قدّموا أنفسهم لخدمة شؤون الناس ورعايتهم، ومن حقّ الشعوب الحرّة وواجبها تقييم حكّامها وتغييرهم، وتجديد طبقتها السياسية إن استلزم الأمر، ولذلك أوجد النظام الديمقراطي لنفسه آلياتِ الرقابةِ والمحاسبةِ وتقريرِ المصير عبر صناديق الاقتراع، وتفعيل هذه الآليات يعزّز بدوره ركائزَ الديمقراطية، والدور الفعّال للمواطن، والحوكمة في إدارة الشأن العام.

ومن بين أهم الأخطاء التي وقع فيها حزب النهضة والغنّوشي، وأحزاب أخرى، كان تعويلهم في مواقع الحكم والتشريع على بعض الأشخاص الذين “يصلّون مع علي ويأكلون مع معاوية”، فلم يعطوا الأمانة حقّها مرَّتَين، حين كلّفوا (تدبيراً وتنفيذاً)، وحين تولّوا.

يطول الحديث عن تجربة الحكم في تونس بعد الثورة بمكتسباتها السياسية والحقوقية، وبإخفاقاتها الاجتماعية والاقتصادية، خاصّة أمام حجم الانتظارات الشعبية. وتجدُر الإشارة هنا إلى التفرقة بين الإخلالات، أو حتى الفشل في سياسة الدولة والفساد منظومة حُكم، ليبقى ما يهمّنا في هذا المقال التشديد على القيمة السياسية والفكرية لراشد الغنّوشي، ليس زعيماً إسلامياً تونسياً فقط، وإنما بوصفه زعيماً إسلامياً عربياً، حقّق قفزةً نوعيةً نظرياً وتطبيقياً في علاقة ما يسمّى “الإسلام السياسي” في الدولة والنظام المدني والديمقراطية، وبذل الجهد في تقديم أنموذجٍ لذلك، يقطع به مع مقولات شمولية فضفاضة لبعض الإسلاميين إن “الإسلام هو الحلّ” وإن “الحُكم لله”، ويقطع به أيضاً مع مقولات بعض العلمانيين إن الدولة الحديثة في طرفي نقيض من الدين، أو حتى الأحزاب التي تمارس الفعل السياسي بمرجعية قيمية تستمدّها من نصّ ديني (الإسلام في موضعنا هذا).

همية تناول جهود الغنّوشي في المصالحة بين الرؤية الإسلامية للحكم والدولة الحديثة في منطقتنا العربية تتجاوز الإشادة بشخصه، ليلامس إسهاماته في معالجة إشكالات نظرية، والإجابة عن أسئلة مفاهيمية وعملية، مزّقت صفوف مجتمعاتنا عقوداً (منذ سقوط الخلافة العثمانية واتفاقية سايكس – بيكو)، وسبّبت مظالم كثيرة، ومحارق لأجيال متتالية، وعطّلت نهوض الأمّة العربية والتحاقها بركب الحضارة والمدنية المواطنية، ولديمومة حضور الفاعل الإسلامي في الحقل السياسي العربي، مكوّناً ونتاجاً رئيساً للثقافة العربية الإسلامية، رغم الحديد والنار والمحن التي مرّ بها.

لم تنجح سياسات جلّ الأنظمة العربية منذ استقلال بلدانها في القضاء على المعارضين، يساريين (شيوعيين وقوميين) وليبراليين، وإسلاميين خاصّة، بقدر ما عطّلت تطوّر هذه التنظيمات مع حركة الزمن والأحداث، مع منحها مشروعية إضافية للبقاء والاستمرار والاستثمار فيها أيضاً، ألا وهي مشروعية المظلومية، من دون أن تمنحها الفرصة، وحقّها في الحضور والعمل العلني وإصلاح نفسها على محكّ الواقع ومعطياته الصلبة، وامتحاناته المتعدّدة، وقد أثبتت هذه الأنظمة العربية فشلها مرّات عدة، إلا أنها تأبى إلا أن تعيد التاريخ في شكل مهازل.

لهذا وغيره يمثّل اعتقال السياسي والمفكّر، راشد الغنّوشي، بتهم واهية، اعتداءً على شخصه وانتهاكاً لحقوقه أوّلاً، واستمراراً لسياسة بعض النخب الكولونيالية المتحالفة مع بيروقراطية فاسدة في الإقصاء ومحاولات إلغاء الآخر، وتعطيلاً لشروط التقدّم والتطوّر، ولا سيّما على مستوى العقل السياسي العربي.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى