
تصريح خطير لـ المبعوث الأمريكي يصف مصر بالدولة المفلسة ويلوح بسقوط النظام.
تصريحات استيف ويتكوف هل تعكس مزاجًا جديدًا تجاه مصر؟
هل أصبحت واشنطن ترى أن مصر نقطة ضعف في معادلة إقليمية معقدة، تنقل فيها واشنطن دفة قيادة المنطقة العربية إلى الرياض، وأن بقاء النظام فيها لم يعد مضمونًا كما كان؟
نعم، نرفض مثل هذه التصريحات الفجة وغير الدبلوماسية، لكن على متخذي القرار في مصر أن يسمعوا صوت الواقع… قبل أن يفرض الواقع نفسه.
ما قاله المبعوث الأميركي ترجمة ملخصة لما تقوله المؤشرات منذ سنوات: فتجاهل الحقائق لا يلغيها، وإدارة الأزمات عبر الإنكار الإعلامي لم تعد تقنع أحدًا، لا في الداخل ولا في الخارج.
الأرقام لا تكذب، لكنها تحذّر… ومن لا يريد أن يسمع صوت الأرقام، والمؤشرات – الآن – سيسمع قطعًا وقع صوت الانهيار – لا قدر الله.
واشنطن تحذر وتعتبر مصر “كأنها الرجل المريض في الشرق الأوسط”، وعبارة “الرجل المريض” استخدمها التاريخ مع الدولة العثمانية قبيل سقوطها، فالمعنى أعمق من الوصف. فالمقصود ليس النظام فقط، ولو كان الأمر كذلك فهذا شأنه، لكن الخطر الذي يزعجنا هو ما يتجاوز النظام ليطول الدولة المصرية كاملة، في ظل حالة التآكل المؤسسي، وغياب الرؤية، وفقدان مركز القيادة في الإقليم.
عبارة “الرجل المريض” التي ربما لم ترد نصًا في تصريح المسؤول الأمريكي لكنها وردت وصفًا بحديثه عن أن مصر دولة مفلسة ولا يمكن استمرار أوضاعها على ما هي عليه.
هذا الكلام للأسف ليس مجرد هجمة سياسية تأتي من فراغ، بل قراءة تشخيصية يجب أن تقلقنا كمصريين أكثر من غيرنا.
في هذا السياق، جاءت التصريحات – المرفوضة – من ويتكوف، الذي يشغل موقع المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، بوصفه مسؤولًا يحمل رسائل ولا يمكن اعتبار مثل هذه التصريحات تعبيرًا عن رأي شخصي. فحين يقول إن “خسارة مصر تعني ذهاب كل ما تحقق ضد السنوار أدراج الرياح”، فهو لا يتحدث عن غزة، بل عن الخوف من فراغ استراتيجي أكبر إذا سقطت القاهرة.
ربما يكون هذا تمهيدًا لنقل مركز النفوذ بالمنطقة إلى السعودية، وربما تشير وتقود مجريات الأحداث لهذا الاحتمال.
أما قوله بأن “مصر مفلسة، والبطالة تصل إلى ٤٥٪”، فمهما بدا الرقم مبالغًا فيه، إلا أن الواقع المعيشي للناس يثبت أن الفجوة بين السلطة والمجتمع أكبر من أي نسب معلنة. فلدينا أزمة ثقة، وأزمة إدارة، وأزمة بوصلة.
فتؤكد مؤشرات 2024 الصادرة عن أكثر من ثلاثين مؤسسة دولية هذا التدهور الحاد، وفي مقدمتها: البنك الدولي، الإيكونوميست، منظمة الشفافية الدولية، والأمم المتحدة. وقد جاء ترتيب مصر على النحو التالي:
- 159 في الاستقرار السياسي
- 128 في الديمقراطية
- 130 في مكافحة الفساد
- 144 في نصيب الفرد من الدين
- 136 في متوسط دخل الفرد
- 121 في الرفاه العام
- 92 في معدلات الجريمة
- 132 في النمو السكاني
- 168 من 180 في حرية الصحافة
- 38 في الإنفاق على البحث العلمي
- 45 في حجم الإنفاق العسكري
هذه المؤشرات لا تنفصل عن الواقع اليومي، بل تعبّر عنه. إنها ليست تقارير دولية وغربية، بل للأسف شواهد على أرض الواقع الذي يعاني من أزمة ممتدة داخل النسيج المصري ذاته.
تحذير ويتكوف المرفوض هو ترجمة لمخاوف استراتيجية أميركية. الولايات المتحدة لا تخشى على المصريين، بل على خارطة مصالحها. النظام في القاهرة كان ولا يزال للآن أحد ركائز الأمن الإقليمي كما تراه واشنطن. سقوطه يعيد خلط أوراق ما بعد غزة، ويفتح الباب أمام صعود قوى غير مرغوب فيها على حدود إسرائيل.
فهل تسعى واشنطن والرياض وغيرهما للتحسب لهذا الاحتمال؟ هذا هو السؤال المعضلة!!
وهنا لا بد أن نقول بوضوح إن مستقبل مصر ينبغي أن يحدده المصريون فقط، لكن تبقى قراءة هذه التحذيرات من داخلنا يجب أن تكون مختلفة. فنحن لا نملك ترف الانتظار لنرى كيف سيتصرف الخارج، بل نحتاج للنظر في المرآة لإعادة تعريف الداخل:
من نحن؟
وإلى أين نتجه؟
ومن الذي يملك القرار فعلًا في مصر؟ الرئيس؟ الأجهزة؟ مراكز النفوذ الإقليمي؟
ومتى يدرك النظام استحقاقات مواجهة مثل هذا الحجم من المخاطر والتحديات الخارجية بإصلاحات داخلية حقيقية؟ ففي ظل هذا الجمود، لم يعد سقوط الدولة (لا قدر الله) خطرًا نظريًا، فقد بات السؤال لدى بعض القوى الدولية وحلفائها الإقليميين هو:
متى؟
ومن؟
وكيف؟
فالمدهش أن النظام لم يدرك بعد أن المخاوف لم تعد مرتبطة بالمعارضة، التي يدجنها أو يسجنها أو ينفيها.. ولا حتى بالغضب الشعبي، بل المخاوف الحقيقية هي ذلك الجمود القائم في مؤسسة الحكم، وضعف التكيّف مع المتغيرات.
النظام لا يعاني من خصوم في الداخل والخارج، بقدر ما يعاني من شيخوخة رؤيته، وتردده، وجموده، وضعف أدوات الإصلاح من داخله.
حين تُدار دولة كمنشأة أمنية، ويُقصى الإعلام الحر، وتُحاصر السياسة، ويُربك الاقتصاد بقرارات فوقية… يصبح التدهور حتميًا، لا استثنائيًا.
مصر لا تحتاج إلى مسكنات خارجية… بل إلى إصلاح داخلي مؤلم وصادق. لا دعم من صندوق النقد سيحل الأزمة، ولا زيارة من مسؤول غربي ستنقذ ما تبقى. وحده القرار الداخلي، إذا تجرّد من وهم السيطرة المطلقة، يمكنه إعادة بناء دولة قابلة للحياة.
التحذير الأميركي هو إنذار مبكر لا ينبغي الاستهانة به. لا لأنه صادر من واشنطن، بل لأنه يردد ما يقوله الواقع كل يوم.
وإن كان صوت الناس لا يُسمع، فربما آن الأوان لسماع صوت الأرقام… قبل أن يتكلم الواقع ويفرض نفسه.
