وائل عباس يكتب : إمبراطورية سونجهاي الإفريقية تطرق باب مصر المملوكية

بالتأكيد مصر لها بعد إفريقي، لكن ليس كما يصوره المدعين من الأفروسنتريك، صديق أعرفه قام بعمل تحليل دي إن إيه لنفسه في الولايات المتحدة، فوجد ان له جدودا من افريقيا بنسبة 5%، ليس من الحبشة والصومال كما هو معتاد، ولكن من غرب افريقيا، من بلاد الساحل، فكيف حدث هذا؟ وكيف جاء هذا الجد من اقصى غرب القارة الى مصر ؟ هل كان بعض أجداده عبيدا مجلوبين ؟ أم تجارا مسلمين ؟ سنغوص اليوم في تاريخ قارتنا المجهول لدينا عمدا او اهمالا لنطلع على حقبة كنا فيها اكثر معرفة واتصالا بها.
مدينة جاو حاليا
المهتم بتاريخ افريقيا ربما يكون قد سمع عن امبراطورية مالي، ومنسا موسى الذي وزع الذهب في القاهرة في طريقه للحج في مكة، حتى تسبب في حدوث تضخم وتدمير للإقتصاد في مصر من كثرة الذهب الذي كانت تمتلكة امبراطوريته المسلمة، لكننا اليوم بصدد الحديث عن امبراطورية أخرى ربما تكون أكبر من إمبراطورية مالي، إمبراطورية سونجهاي التي قاربت حدودها حدود مصر، ولو قدر لها لكانت إستولت على مصر وحكمتها.
بينما كانت تعاني اوروبا من الطاعون الاسود، هناك على ضفاف نهر النيجر كانت تتكون امبراطورية استفادت من الزراعة وتجارة العبيد من اجل الزراعة واستخراج الذهب، والتجارة مع شمال افريقيا في المغرب ومصر، ومن التعدين من اجل الذهب والملح الذي كان احيانا اغلى من الذهب لاستخدامه في حفظ الغذاء، هيمنت على طرق التجارة الصحراوية عبر الصحراء الكبرى التي كان البعض يعتبرها مستحيلة العبور، وعلى عكس مزاعم المستعمرين كانت ناجحة في ادارة هذا الاقتصاد التجاري الضخم وتلك الموارد العظيمة.
صورة تخيلية لأسكيا محمد
ورثت سونجهاي امبراطورية غانا التي استفادت من التجارة مع المسلمين من القرن الثامن الميلادي، وكذلك امبراطورية مالي وملكها الاسطوري منسا موسى التي ورثت طرق التجارة التي اسستها امبراطورية غانا، كانت سونجهاي الأكبر مساحة وجيشا وثروة بين الثلاث امبراطوريات، ولهذا سأركز عليها في هذا المقال.
جامع جيني الكبير
بدأت سونجهاي كمملكة داخلية تسيطر على طرق الجمال والصحراء الى القاهرة وفاس وتمبكتو، على علاقة بالممالك الساحلية التي كانت بدورها تتاجر بحريا عبر المحيط الاطلنطي، خصوصا مع البرتغاليين، وكان طريق الصحراء هذا هو طريق وصول الاسلام الى تلك المنطقة، بدون حروب او فتوح أو غزوات او اراقة دماء، طريق وصول الكتب والأفكار والعادات، تأسست حول مدينة جاو في مالي حاليا، التي قامت في البداية على الزراعة والصيد النهري والتجارة النهرية في الجلود والاقمشة والغلال.
تجارة الملح على نهر النيجر حاليا
كانت جاو مدينة تجارية كوزموبوليتانية يمكن ان تسمع فيها العديد من اللغات بسبب توافد التجار عليها، ومنها اللغة العربية، أسسها تحالف من عدة قبائل اهمها السونجهاي والزارما، سيطرت عليها اسر متعاقبة كان اخرها اسرة سوني او السني ربما وهو لقب عربي لمتبعي السنة النبوية، اتبعت اسرة السني طريقة ادارة امبراطورية مالي المجاورة، التي تقلبت علاقتهم بها من التبعية الى التحالف الى الاستقلال عنها تماما عندما ضعفت، وبداية من القرن الرابع عشر قويت جاو واصبح لها جيش وسيطرة على ما حولها بما في ذلك طرق التجارة خصوصا الواحات والمدن الرئيسية والمعابر النهرية.
مخطوطات تمبكتو
من اهم من كتبوا عن تلك المنطقة ونشأتها خصوصا وان سكانها لم يدونوا تاريخهم، كان الرحالة العربي ابن بطوطة وكذلك المؤرخ ابن فضل الله العمري، حيث وصفوا الجمال المحملة بالملح والقوراب المحملة بالبضائع على نهر النيجر، ووصفوا انتشار الاسلام بها الذي كان ما يزال ديانة اقلية لكن مسموح بها وينظر اليها كديانة لعلية القوم والتجار ورجال البلاط، حيث كان الاسلام ايضا وسيلة لتوطيد اواصر العلاقات التجارية مع شمال افريقيا، وحرص الحكام على وجود جو من التسامح بين المسلمين والوثنيين، وساهم الاسلام ايضا في بداية تدوين تاريخ تلك المنطقة عن طريق المثقفين المسلمين، ثم استعان الحكام بعلماء المسلمين أيضا لاتساع علمهم في خلق نظام حكم وقضاء وادارة وجيش وضرائب ومكوس مشابه للنظام الاسلامي، لكن في نفس الوقت يراعي الثقافة المحلية الوثنية، وهو الامر الذي سيساهم في توسع الامبراطورية لاحقا.
خريطة إمبراطورية سونجهاي
ثم يصل قائد مهم الى السلطة في المملكة هو سوني علي، وكان يتمتع بالذكاء العسكري، وإرتأى ان يسيطر بشكل كامل على التجارة النهرية والبرية للمنطقة، بعد ان كانت سيطرة اسرته جزئية، فكون جيش من الفرسان واسطول نهري، وبالفعل يبدأ بالسيطرة على تمبكتو التي كانت تحت حكم قبائل الطوارق، ثم يستولي على مدينة جيني على نهر النيجر بعد حصار سبع شهور، ثم يخضع قبائل الموسي في بوركينا فاسو الحالية، والفولاني المسلمين في السنغال الحالية، ثم يسيطر على والاتا في موريتانيا حاليا وهي مدخل الصحراء وطريق تجارة الملح، ويقضي على ما تبقى من امبراطورية مالي ويوحد المنطقة تحت راية سونجهاي.
رحلة ابن بطوطة
اعتمد حكمه على القوة العسكرية المخيفة مع اللامركزية في نفس الوقت، مع المراقبة الصارمة لاي محاولة للاستقلال، لكن كان دائما هناك توتر في المدن ذات السمت الاسلامي، خصوصا تمبكتو وجيني حيث يسيطر علماء الدين الاسلامي الذين كانوا يرونه لا يحترم الشريعة، وبدوره كان يمارس ضدهم اضطهاد يصل للاعدام ومصادرة الاملاك، لكنه كان يرى من الحكمة ان يحافظ على ثنائية الاسلام والوثنية بينما يرى العلماء انه يجب ان يتبنى الاسلام وحده، الاسلام يضمن علاقة جيدة مع العرب والوثنية هي دين الاغلبية الافريقية، وكان يتهم ايضا بالسحر لانه كان محاطا بمجموعة من السحرة و العرافين والمنجمين التقليديين.
جامعة سانكوري أقدم من جامعة هارفارد
تقول الاسطورة ان سوني علي غرق في نهر النيجر، بينما توجد قصص اخرى عن اغتياله من داخل العائلة الملكية، تاركا امبراطورية قوية كونها في اقل من ثلاثة عقود من القرن الرابع عشر الميلادي، ثم حدث صراع على السلطة استمر لمدة شهر حتى تولى سوني بارو ابنه وكان يسمى سوني ابو بكر، لكنه رفض اعتناق الاسلام، فأزاحه القائد العسكري أسكيا محمد في انقلاب عسكري، مكونا اسرة أسكيا، ومقدما نفسه كنصير للإسلام.
مقبرة أسكيا محمد في جاو
احاط اسكيا محمد نفسه بعلماء الدين ليضفي على نفسه الشرعية، ويحظى بولاء وجهاء المسلمين والتجار، بنى المساجد والمدارس والمحاكم ايضا، واستقطب علماء المسلمين من مختلف البلاد، وابتكر نظام حكم لا مركزي مرن يعتمد على تقسيم الامبراطورية الى مناطق تحت حاكم تابع له يجمع له الضرائب، بينما يستمر في الاحتفاظ بجيش بري واسطول نهري، ليحمي قوافل التجارة ويمنع استقلال المناطق، ثم يستمر في الحملات العسكرية على مالي مستوليا على العاصمة نيامي عاصمة النيجر حاليا، ثم يستولي على واتنجا وواجادوجو عاصمة بوركينا فاسو حاليا، ثم يتجه شرقا محاربا قبائل الهاوسا في شمال نيجيريا حاليا المسيطرين على الطريق الى بحيرة تشاد، وشمالا لمواجهة قبائل الطوارق.
قبائل الطوارق
يفرض اسكيا محمد سيطرته الكاملة على مناجم الملح في شمالي مالي ليضمن ثبات تدفقه، ثم يسعى لفرض سيطرته على مملكة كانم بورنيو حول بحيرة تشاد، وهي مملكة مسلمة قديمة، سيطرت على اجزاء من تشاد والنيجر ونيجيريا والسودان وليبيا وعلى الطريق الصحراوي الى مصر، وذلك في طريقه ليربط غرب افريقيا بوادي النيل ومصر، لكنه يفشل في محاولته هذه.
في عهد اسكيا محمد تحولت تمبكتو الى مركز ثقافي علمي نافس القاهرة وبغداد، حيث كانت جامعة سانكوري التي تعمل حتى الان تدرس الفقه والرياضيات والعلوم والفلك، وامتلأت مكتبات المدينة بالمخطوطات ومساجدها بالمناظرات الدينية، لكنه لم ينسى مصر، حيث قام برحلة حج الى مكة مرورا بمصر، مقدما الكثير من الهدايا كما فعل منسا موسى امبراطور مالي من قبله، ووطد علاقته بمماليك مصر بقيادة السلطان قايتباي، واشراف الحجاز وتجار الدولة العثمانية، وبنى سمعة من التقوى الدينية والكرم الحاتمي، حتى ان الخليفة العباسي المتوكل الثاني بالقاهرة، حيث مقر الخلافة في العصر المملوكي بعد سقوط بغداد، اعطاه لقب خليفة السودان، حيث كانت تطلق على بلاده اسم السودان الغربي في ذلك الوقت، ثم يعود اسكيا الى بلاده عودة الظافر الفاتح.
لكن لكبر السن يصاب اسكيا محمد بالعمى فيخلعه ابنه اسكيا موسى، وتستمر الامبراطورية لعدة اجيال، معترف بها في العالم الإسلامي، مسيطرة على التجارة الافريقية مع العرب والبربر والطوارق وحتى اوروبا، وكمركز للعلم والحضارة والثقافة في قلب افريقيا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، حتى حكم اسكيا اسحاق الثاني حيث انتهت الامجاد على يد ملوك السعديين من المغرب تحت حكم السلطان احمد المنصور.
وكانت المغرب تحت حكم السعديين قوية بالقدر الذي استطاعت به التصدي للعثمانيين وان يكون لها طموح اقليمي للسيطرة على ما يجاورها، وقد استخدم المغاربة في غزوهم لسونجهاي البنادق والمدافع والمرتزقة من البرتغال، وهي تكنولوجيات حديثة لم يكن لجيش سونجهاي على ضخامته المقدرة على مواجهتها، خصوصا في معركة تونديبي شمال شرق مالي سنة 1591، ليستولي بعدها المغاربة على طرق التجارة ومناجم الملح، وكذلك على العاصمة جاو وتمبكتو وجيني، ويقتل اسكيا اسحاق ويعين المغاربة خلفه اسكيا نوح التابع لهم، فتنحل الامبراطورية وتتفكك تدريجيا بسبب عدم قدرة المغاربة على السيطرة على تلك المساحة المهولة.